والمتبادر أن الأقسام الثلاثة في بدء السورة مما كان يعرف السامعون خطورته ومداه مهما اختلف المؤولون فيه. وبهذا فقط تبدو الحكمة في ذلك، واللّه أعلم ولقد رويت روايات مختلفة في صدد الحادث الذي ذكر في الآيات منها حديث نبوي «٢» عن ساحر كان يعلم أحد الأولاد السحر فمر الولد براهب فأسلم على يديه وصار يبرئ الأكمه والأبرص باسم اللّه ثم أسلم الساحر على يد الولد و علم الملك بالأمر فعذب الراهب والساحر والولد ثم قتلهم. وظهرت للولد كرامات فآمن الناس بالإله الذي يؤمن به فأمر الملك بحفر أخدود وتأجيج النار فيه وإلقاء من لم يرتد عن دين الولد فيه. ومنها أن ذا نواس ملك حمير الذي اعتنق اليهودية طلب من نصارى نجران أن يتركوا دينهم ويتهودوا فأبوا فخذّ الأخدود وأجّج فيه النار وألقى فيها كل من ثبت على نصرانيته حتى بلغ من حرقهم ١٢ ألفا في رواية وعشرين ألفا في رواية وأن هذا العمل حفز الأحباش النصارى على غزو اليمن وتفويض حكم ذي نواس والديانة اليهودية. وتهود ذي نواس وبعض أهل اليمن واضطهاده النصارى وغزو الأحباش لليمن بسبب ذلك وقائع تاريخية ثابتة يمكن أن يستأنس بها في ترجيح هذه الرواية وقد ذكرنا ذلك في سياق تفسير سورة الفيل.
ومهما يكن من أمر فإن روح الآيات واكتفاءها بالإشارة الخاطفة إلى أصحاب الأخدود يدلان على أن سامعي القرآن كانوا يعرفون حادث التحريق في الأخدود وأسبابه فاقتضت حكمة التنزيل التذكير به في صدد الحملة على مقترفي إثم يماثل إثم أصحاب الأخدود.
وأسلوب الآيات أسلوب تقريعي لهذا العمل الوحشي الظالم غضبا على أناس آمنوا باللّه وتمسكوا بإيمانهم. وفيه تلقين قرآني عام مستمر المدى كما هو المتبادر.
هذا، وما تعنيه كلمة «البروج» هو مما كان متداولا بين العرب قبل الإسلام على ما هو مستفاد من أقوال المفسرين. حيث يصح القول إن حكمة التنزيل قد شاءت بأن تقسم بأمر يعرف العرب خطورته ويعرفون أنه مظهر من مظاهر قدرة اللّه تعالى وبكلمة أخرى شاءت أن تذكر هذا المظهر من مظاهر الكون بما كان متداولا بينهم. وهذا الأسلوب مما تكرر كثيرا في هذا الأمر لأنه أكثر تأثيرا فيهم كشأن القصص على ما شرحناه في سياق سورة القلم. ولقد كانوا يعرفون ويعترفون بأن اللّه سبحانه هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وهو مدبر الأكوان على ما جاء في آيات كثيرة منها آية سورة يونس هذه : قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) وآية سورة الزخرف هذه : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩). (١)

(١) - التفسير الحديث، ج ٢، ص : ١٤٥


الصفحة التالية
Icon