ولو لم يحمده الجهال! وهو الحقيق بالإيمان وبالعبودية له. وهو وحده الذي له ملك السماوات والأرض وهو يشهد كل شيء وتتعلق به إرادته تعلق الحضور.
ثم هو الشهيد على ما كان من أمر المؤمنين وأصحاب الأخدود.. وهذه لمسة تطمئن قلوب المؤمنين، وتهدد العتاة المتجبرين. فالله كان شهيداً. وكفى بالله شهيداً.
وتنتهي رواية الحادث في هذه الآيات القصار، التي تملأ القلب بشحنة من الكراهية لبشاعة الفعلة وفاعليها، كما تستجيش فيه التأمل فيما وراء الحادث ووزنه عند الله وما استحقه من نقمته وغضبه. فهو أمر لم ينته بعد عند هذا الحد، ووراءه في حساب الله ما وراءه.
كذلك تنتهي رواية الحادث وقد ملأت القلب بالروعة. روعة الإيمان المستعلي على الفتنة، والعقيدة المنتصرة على الحياة، والانطلاق المتجرد من أوهاق الجسم وجاذبية الأرض. فقد كان مكنة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم. ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير : معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد! إنه معنى كريم جداً ومعنى كبير جداً هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض. ربحوه وهم يجدون مس النار فتحترق أجسادهم، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار؟ (١)
ما ترشد إليه الآياتُ
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
٢- فضل يومي الجمعة وعرفة.
٣-القصة درس وعظة وتذكير للمؤمنين بالصبر على ما يلاقونه من الأذى والآلام، والمشقات التي يتعرضون لها في كل زمان ومكان ليتأسوا بصبر المؤمنين وتصلبهم في الحق وتمسكهم به، وبذلهم أنفسهم من أجل إظهار دعوة اللَّه.
وليس هذا بمنسوخ، فإن الصبر على الأذى لمن قويت نفسه، وصلب دينه أولى (٢). قال اللَّه تعالى مخبرا عن لقمان : يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ، إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان ٣١/ ١٧].
وأخرج الترمذي عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - « أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ». أَوْ « أَمِيرٍ جَائِرٍ ». (٣).
(٢) - تفسير القرطبي : ١٩/ ٢٩٣
(٣) - سنن أبى داود (٤٣٤٦ ) وسنن الترمذى (٢٣٢٩) صحيح لغيره
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ : إِنَّمَا كَانَ هَذَا أَفْضَلَ الْجِهَادِ لِأَنَّ مَنْ جَاهَدَ الْعَدُوَّ كَانَ عَلَى أَمَلٍ مِنَ الظَّفَرِ بِعَدُوِّهِ وَلَا يَتَيَقَّنُ الْعَجْزَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ مَغْلُوبٌ وَهَذَا يَعْلَمُ أَنَّ يَدَ سُلْطَانِهِ أَقْوَى مِنْ يَدِهِ فَصَارَتِ الْمَثُوبَةُ فِيهِ عَلَى قَدْرٍ عِظَمِ الْمَئُونَةِ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ لَيْتَ شِعْرِي مَنِ الَّذِي يَدْخُلُ إِلَيْهِمُ الْيَوْمَ فَلَا يُصَدِّقُهُمْ عَلَى كَذِبَهِمْ وَمَنِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِالْعَدْلِ إِذَا شَهِدَ مَجَالِسَهُمْ وَمَنِ الَّذِي يَنْصَحُ وَمَنِ الَّذِي يَنْتَصِحُ مِنْهُمْ إِنَّهُ أَسْلَمُ لَكَ يَا أَخِي فِي هَذَا الزَّمَانِ وَأَحْوَطُ لِدِينِكَ أَنْ تُقِلَّ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ وَغَشَيَانِ أَبْوَابِهِمْ وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْغِنَى عَنْهُمْ وَالتَّوْفِيقَ لَهُمْ " الْعُزْلَةُ لِلْخَطَّابِيِّ (٢٢٥ )