ثم قال : إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي إنك ستحفظ القرآن المنزل إليك، ولا تنساه، إلا ما شاء اللَّه أن تنساه، فإن أراد أن ينسيك شيئا، فعل. وقيل : المراد بالاستثناء ما يقع من النسخ، أي لا تنسى ما نقرئك إلا ما يشاء اللَّه رفعه أو نسخه، مما نسخ تلاوته، فلا عليك أن تتركه.
والمعنى الأول أصح قال قتادة : كان رسول اللَّه - ﷺ - لا ينسى شيئا إلا ما شاء اللَّه. قال أبو حيان : الظاهر أنه استثناء مقصود، وكذلك قال الألوسي : والظاهر أن النسيان على حقيقته.
ثم أكد اللَّه تعالى الوعد بالإقراء وعدم النسيان إلا ما شاء اللَّه أن ينسيه لمصلحة، فقال : إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى أي يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من أقوالهم وأفعالهم، لا يخفى عليه من ذلك شي ء. ومن الجهر : كل ما يفعله الإنسان أويقوله علانية، وَما يَخْفى : كل ما يسرّه بينه وبين نفسه، مما لا يعلمه إلا اللَّه تعالى، فالذي وعدك بأنه سيقرؤك ويحفّظك عالم بالجهر والسرّ. وهذا على الرأي بأن قوله : إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ يعني النسخ : يعد تعليلا للنسخ، وإذا كان كذلك، كان وضع الحكم ورفعه واقعا بحسب مصالح المكلفين.
ونظير الآية كثير، مثل قوله تعالى : إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ، وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ [الأنبياء ٢١/ ١١٠].
ثم بشره ببشارة أخرى وهو تيسيره، أي توفيقه للأيسر في أحكام الدين والشريعة، فقال : وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى أي نسهل عليك أفعال الخير وأقواله، ونشرع لك شرعا سهلا سمحا، ونوفقك للطريقة اليسرى والشريعة السمحة في الدين والدنيا، فلا نشرع لك إلا الأيسر، ولا تختار لأمتك إلا الأسهل الذي لا يصعب على النفوس تحمله والقيام به.
ومضات :
﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ أي : نزِّه ربك عما يصفه به المشركون من الولد والشريك ونحوهما، كقوله :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [ الصافات : ١٨٠ ]، فالاسم صلة. وسِرُّ إيراده أن المنوَّه به إذا كان في غاية العظمة، كثيراً ما تضاف ألفاظ التفخيم إلى اسمه، فيقال : سبح اسمه ومجد ذكره، كما يقال : سلام على المجلس العالي. هذا ما ذكروه. وثمة وجه آخر وهو أن الحق تعالى إنما يعرف بأسمائه الحسنى، لاستحالة اكتناه ذاته العلية، فأقحم تنبيهاً على ذلك. ومما يؤيده ما ذكر من الأخبار عن رسول الله - ﷺ - وعن الصحابة أنهم < كانوا إذا قرؤوا ذلك قالوا : سبحان ربي الأعلى >، كما رواه ابن جرير وغيره.
وذهب بعضهم إلى أن المراد تنزيه اسم الله وتقديسه أن يسمى به شيء سواه، كما كان يفعل المشركون من تسميتهم آلهتهم، بعضها اللات وبعضها العزى، حكاه ابن جرير ؛ فالإسناد على ظاهره، وهذا ما اعتمده الإمام ابن حزم في " الفِصَل " حيث رد على من استدل بهذه الآية في أن الاسم عين المسمى، ذهاباً إلى أن من الممتنع أن يأمر الله عز وجل بأن يسبح غيره.


الصفحة التالية
Icon