طَلَبِهِمْ لَهُ مَوَاضِعَ، كُلَّمَا أَرَادُوا وَضَعَهُ لَهُمْ مِنَ الْبَسَاتِينَ بَسَاتِينِ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، وَإِجْرَاءِ الْأَنْهَارِ وَغَرْسِ الْأَشْجَارِ، وَحُدُودِهَا عَلَى مَا وَصَفَ لَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ ". فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ :" يَا أَبَا إِسْحَاقَ، وَكَمْ كَانَ عَدَدُ تِلْكَ الْمُلُوكِ الَّتِي كَانَتْ إِرَمُ ؟ " قَالَ : كَانَتْ مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ مَلِكًا قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ، كُلُّ مَلِكٍ مِنْهُمْ عَلَى حِدَةٍ، وَمَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَرَاجِ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ :" أَتْمِمْ حَدِيثَكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ ". قَالَ : فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْفَعَلَةُ وَالْقَهَارِمَةُ، فَتَبَدَّدُوا فِي الصَّحَارِي لِيَجِدُوا مَا يُوَافِقُهُ فَلَمْ يَجِدُوا ذَلِكَ حَتَّى وَقَفُوا عَلَى صَحْرَاءَ عَظِيمَةٍ نَقِيَّةٍ مِنَ الْجِبَالِ وَالتِّلَالِ، فَإِذَا هُمْ بِعُيُونٍ مُطَّرِدَةٍ فَقَالُوا : هَذِهِ صِفَةُ إِرَمَ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا فَعَمَدُوا، فَأَخَذُوا بِقَدْرِ الَّذِي أَمَرَهُمْ مِنَ الْعَرْضِ وَالطُّولِ، ثُمَّ جَعَلُوا ذَلِكَ بِحُدُودٍ مَحْدُودَةٍ، ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى مَوَاضِعِ الْأَزِقَّةِ الَّتِي فِيهَا الْحُدُودُ، فَأَجْرَوْا فِيهَا قَنَوَاتِ تِلْكَ الْأَنْهَارِ، ثُمَّ وَضَعُوا الْأَسَاسَ مِنْ صُخُورِ الْجَزَعِ الْيَمَانِي، وَعَبَّوْا طِينَ ذَلِكَ الْأَسَاسِ مِنْ مُرٍّ وَلُبَانٍ، وَمَحْلَبٍ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِمَّا وَضَعُوا مِنَ الْأَسَاسِ، وَأَجْرَوُا الْقَنَوَاتِ، وَأُرْسِلَتْ إِلَيْهِمُ الْمُلُوكُ بِالزَّبَرْجَدِ، وَالْيَاقُوتِ وَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ وَاللُّؤْلُؤِ، وَالْجَوْهَرِ، كُلُّ مَلِكٍ قَدْ عَمِلَ مَا كَانَ فِي مَعْدِنِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ بَعَثَ بِالْعُمُدِ مَفْرُوغٌ مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ بَعَثَ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ مَفْرُوغٌ مِنْهُ مَصْنُوعًا، فَدَفَعُوهُ إِلَى تِلْكَ الْقَهَارِمَةِ وَالْوُزَرَاءِ، فَأَقَامُوا فِيهَا حَتَّى فَرَغُوا مِنْ بِنَائِهَا، وَهِيَ عَلَى تِلْكَ الْعُمُدِ، وَهِيَ قُصُورٌ مِنْ فَوْقِ الْقُصُورِ غُرَفٌ، وَمِنْ فَوْقِ الْغُرَفِ غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالزَّبَرْجَدِ، وَالْيَاقُوتِ الَّتِي بَعَثَ بِهَا الْمُلُوكُ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ :" يَا أَبَا إِسْحَاقَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسِبُهُمْ قَدْ أَقَامُوا فِي بِنَائِهَا زَمَانًا مِنَ الدَّهْرِ ؟ " قَالَ : نَعَمْ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي لَأَجِدُ مَكْتُوبًا فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُمْ أَقَامُوا فِي بِنَائِهَا، وَمَا أَجَّلَهُمُ الْمُلُوكُ فِي الَّذِي أَمَرَهُمْ مِنْ حَمْلِ مَا فِي الدُّنْيَا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ زَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ، وَلُؤْلُؤٍ وَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ حَتَّى فَرَغُوا مِنْهَا، أَجِدُهُ مَكْتُوبًا ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ. قَالَ مُعَاوِيَةُ :" وَكَمْ كَانَ عُمْرُ شَدَّادِ بْنِ عَادٍ صَاحِبُهَا ؟ " قَالَ : كَانَ عُمْرُهُ تِسْعَمِائَةِ سَنَةٍ. قَالَ مُعَاوِيَةُ :" يَا أَبَا إِسْحَاقَ، لَقَدْ أَخْبَرْتَنَا عَجَبًا، فَحَدِّثْنَا ". قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى : إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ الَّتِي لَمْ يُعْمَلْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ، لِلَّذِي فِيهَا مِنَ الزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ، وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا مَدِينَةٌ بِالزَّبَرْجَدِ غَيْرُهَا وَلَا يَاقُوتٌ غَيْرُهَا، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ قَالَ كَعْبٌ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُمْ لَمَّا أَتَوْهُ فَأَخْبَرُوهُ بِفَرَاغِهِمْ مِنْهَا قَالَ : انْطَلِقُوا فَاجْعَلُوا عَلَيْهَا حِصْنًا، وَاجْعَلُوا حَوْلَ الْحِصْنِ أَلْفَ قَصْرٍ عِنْدَ كُلِّ قَصْرٍ أَلْفُ عَلَمٍ، يَكُونُ فِي قَصْرٍ مِنْ تِلْكَ الْقُصُورِ، وَزِيرٌ مِنْ وُزَرَائِي، وَيَكُونُ فَوْقَ كُلِّ عَلَمٍ مِنْهَا نَاطُورٌ قَالَ : فَرَجَعُوا، فَعَمِلُوا تِلْكَ الْقُصُورَ وَالْأَعْلَامَ وَالْحِصْنَ، ثُمَّ أَتَوْهُ، فَأَخْبَرُوهُ بِالْفَرَاغِ مِمَّا أَمَرَهُمْ بِهِ. قَالَ : فَأَمَرَ أَلْفَ وَزِيرٍ مِنْ أَهْلِ خَاصَّتِهِ، وَمَنْ يَثِقُ بِهِ أَنْ يَتَهَيَّأُوا إِلَى النَّقْلَةِ إِلَى إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، وَأَمَرَ لِتِلْكَ الْأَعْلَامِ بِرِجَالٍ يَسْكُنُونَهَا، وَيُقِيمُونَ فِيهَا لَيْلَهُمْ وَنَهَارَهُمْ، وَأَمَرَ لَهُمْ بِالْعَطَاءِ وَالْأَرْزَاقِ، وَالْجِهَازِ إِلَى تِلْكَ الْأَعْلَامِ، قَالَ :


الصفحة التالية
Icon