ولقد تكررت قصص فرعون وثمود وعاد في القرآن مرارا، مسهبة حينا ومقتضبة حينا حسب حكمة التنزيل بسبب تكرر المناسبات والمواقف على ما شرحناه في سورة القلم.
وفي القصص الواردة في السور الأخرى بيانات كثيرة عنهم وعن أنبيائهم ومواقفهم منهم ونكال اللّه عليهم. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة على هامشها أيضا معزوة إلى علماء الصدر الإسلامي الأول حيث يفيد هذا أن الحديث في هذه القصص مما كان يجري في بيئة النبي - ﷺ - وعصره متصلا بالأجيال السابقة. ومما يؤيد القول بمعرفة أهل هذه البيئة والعصر أشياء كثيرة منها.
ونكتفي الآن بما قلناه على أن نعلق بما يقتضي في المناسبات الآتية إن شاء اللّه.
والمتبادر أن ما احتوته الآيات هنا عنهم هو بسبيل التنويه بما كانوا عليه من قوة وبسطة، وبسبيل تقرير أنهم لم يعجزوا اللّه حينما طغوا وتجبروا فصبّ عليهم عذابه ونكّل بهم، وبسبيل البرهنة على قدرته على كل من يسير في طريقهم من التجبر والطغيان والتمرد على اللّه، وكل هذا متصل بأهداف القصص القرآنية كما هو واضح.
هذا، والآيات لا تحتوي إشارة إلى موقف معين للمكذبين والجاحدين.
ولذلك يصح أن يقال إنها بسبيل الإنذار والتذكير والتحذير من الطغيان والفساد والتمرد على اللّه ودعوته بصورة عامة. وفي هذا ما هو واضح من التلقين الجليل المستمر المدى. (١)
هذا القسم في مطلع السورة يضم هذه المشاهد والخلائق. ذات الأرواح اللطيفة المأنوسة الشفيفة :﴿ والفجر ﴾.. ساعة تنفس الحياة في يسر، وفرح، وابتسام، وإيناس ودود ندي، والوجود الغافي يستيقظ رويداً رويداً، وكأن أنفاسه مناجاة، وكأن تفتحه ابتهال!
﴿ وليال عشر ﴾ أطلقها النص القرآني ووردت فيها روايات شتى.. قيل هي العشر من ذي الحجة، وقيل هي العشر من المحرم. وقيل هي العشر من رمضان.. وإطلاقها هكذا أوقع وأندى. فهي ليال عشر يعلمها الله. ولها عنده شأن. تلقي في السياق ظل الليلات ذات الشخصية الخاصة. وكأنها خلائق حية معينة ذوات أرواح، تعاطفنا ونعاطفها من خلال التعبير القرآني الرفاف!
﴿ والشفع والوتر ﴾.. يطلقان روح الصلاة والعبادة في ذلك الجو المأنوس الحبيب. جو الفجر والليالي العشر.. « ومن الصلاة الشفع والوتر » ( كما جاء في حديث أخرجه الترمذي ) وهذا المعنى هو أنسب المعاني في هذا الجو. حيث تلتقي روح العبادة الخاشعة، بروح الوجود الساجية! وحيث تتجاوب الأرواح العابدة مع أرواح الليالي المختارة، وروح الفجر الوضيئة.

(١) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (١ / ٥٣٣)


الصفحة التالية
Icon