قال الشهاب : والحِل صفة مصدر بمعنى الحالّ على هذا الوجه. ولا عبرة بمن أنكره لعدم ثبوته في كتب اللغة. وقيل : معناه وأنت يستحل فيه حرمتك، وتعرض لأذيتك. ففيه تعجيب من حالهم في عداوته، وتعريض بتجميعهم وتفريقهم بأنه لا يستحل فيه الحَمام، فكيف يستحل فيه دم مرشد الأنام، عليه الصلاة والسلام ؟
وقيل : معناهُ وأنت حل به في المستقبل، تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر، إشارة إلى ما سيقع من فتح مكة وإحلالها له ساعة من نهار، يقتل ويأسر، مع أنها ما فتحت على أحد قبلهُ، ولا أحلت له ؛ ففيه تسلية له، ووعد بنصره، وإهلاك عدوه. و الحل على هذين الوجهين ضد الحرمة، وفيهما - كما قالوا - بعدٌ، لاسيما إرادة الاستقبال في الوجه الأخير، فإنه غير متبادر منه. وإنما كان الأول أولى لتشريفه عليه السلام، بجعل حلوله به مناطاً لإعظامه، مع التنبيه من أول الأمر على تحقق مضمون الجواب، بذكر بعض موادّ المكايدة، على نهج براعة الاستهلال، وإنه كابد المشاق، ولاقى من الشدائد، في سبيل الدعوة إلى الله، ما لم يكابده داع قبله، صلوات الله عليه وسلامه.
وفيه تسلية للنبيّ صلوات الله عليه، مما يكابدهُ من قريش، من جهة أن الْإِنْسَاْن لم يخلق للراحة في الدنيا، وأن كل من كان أعظم فهو أشد نصباً. هذا خلاصة ما قالوه.
وقال القاشاني :﴿ فِي كَبَدٍ ﴾ أي : مكابدة ومشقة من نفسه وهواه، أو مرض باطن وفساد قلب وغلظ حجاب ؛ إذ الكبد في اللغة غلظ الكبد الذي هو مبدأ القوة الطبيعية وفسادهُ وحجاب القلب وفسادهُ من هذه القوة ؛ فاستعير غلظ الكبد لغلظ حجاب القلب ومرض الجهل. (١)
في الآيات توكيد تقريري وتنديدي بأسلوب القسم لما جبل عليه الإنسان من طبيعة المشاقة والمكابدة، والاعتداد بقوته وماله ظانا أنه لا يراه أحد ولا يقدر عليه أحد في حين أن اللّه قد جعل له عينين ولسانا وشفتين تشهد عليه ويستطيع بها أن يميّز الخير من الشر، وفي حين أن اللّه بيّن له معالم طريقي الخير والشر، وأن الأجدر به أن لا يغترّ ولا يعتدّ ولا يشاقق وأن يختار أفضل الطرق وأقومها.
وقد تفيد آية لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أن اللّه قد جبل الإنسان على هذا الطبع غير المستحب، ولقد احتوى القرآن آيات عديدة أخرى تضمنت التنديد بالطبائع غير المستحبة في الإنسان بأسلوب قد يفيد أن اللّه قد خلق الإنسان على هذه الطبائع مثل آيات سورة المعارج هذه : إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) وآية سورة الإسراء هذه : وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا (١١) وآية الكهف هذه :

(١) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (١٣ / ٢٢٦)


الصفحة التالية
Icon