وفيم أهلك هذا السفيه المغرور هذا المال الكثير ؟ أفي ابتناء محمدة، أو اكتساب مكرمة ؟ أو إغاثة ملهوف ؟ أو إطعام جائع ؟ كلّا.. إنه لا يعرف وجها من هذه الوجوه ولا تنضح يده لها بدرهم، من هذا المال الكثير الذي أهلكه.. إنه أهلكه فى مباذله، وفى استرضاء شهواته، وإشباع نزواته.. ولهذا فهو مال هالك، ومهلك لمن أنفقه وهذا بعض السرّ فى قوله تعالى :« أهلكت » الذي يدل على أن هذا المال ذهب فى طريق الضياع والفساد.
وقوله تعالى :« أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ؟ » أي أيحسب هذا السفيه المفتون، أن عين اللّه لا تراه، ولا تكشف عن هذه الوجوه المنكرة التي يهلك فيها هذا المال اللبد ؟ وكلّا، فإنه محاسب على هذا المال الذي أهلكه فى وجوه الضلال، والبغي والعدوان.. (١)
تبدأ السورة بالتلويح بقسم عظيم، على حقيقة في حياة الإنسان ثابتة :﴿ لا أقسم بهذا البلد. وأنت حل بهذا البلد. ووالد ما ولد. لقد خلقنا الإنسان في كبد ﴾.
والبلد هو مكة. بيت الله الحرام. أول بيت وضع للناس في الأرض. ليكون مثابة لهم وأمناً. يضعون عنده سلاحهم وخصوماتهم وعداواتهم، ويلتقون فيه مسالمين، حراماً بعضهم على بعض، كما أن البيت وشجره وطيره وكل حي فيه حرام. ثم هو بيت إبراهيم والد إسماعيل أبي العرب والمسلمين أجمعين.
ويكرم الله نبيه محمداً - ﷺ - فيذكره ويذكر حله بهذا البلد وإقامته، بوصفها ملابسة تزيد هذا البلد حرمة، وتزيده شرفاً، وتزيده عظمة. وهي إيماءة ذات دلالة عميقة في هذا المقام. والمشركون يستحلون حرمة البيت، فيؤذون النبي والمسلمين فيه، والبيت كريم، يزيده كرماً أن النبي - ﷺ - حل فيه مقيم. وحين يقسم الله سبحانه بالبلد والمقيم به، فإنه يخلع عليه عظمة وحرمة فوق حرمته، فيبدو موقف المشركين الذين يدعون أنهم سدنة البيت وأبناء إسماعيل وعلى ملة إبراهيم، موقفاً منكراً قبيحاً من جميع الوجوه.
ولعل هذا المعنى يرشح لاعتبار :﴿ ووالد وما ولد ﴾.. إشارة خاصة إلى إبراهيم، أو إلى إسماعيل عليهما السلام وإضافة هذا إلى القسم بالبلد والنبي المقيم به، وبانيه الأول وما ولد.. وإن كان هذا الاعتبار لا ينفي أن يكون المقصود هو : والد وما ولد إطلاقاً. وأن تكون هذه إشارة إلى طبيعة النشأة الإنسانية، واعتمادها على التوالد. تمهيداً للحديث عن حقيقة الإنسان التي هي مادة السورة الأساسية.
وللأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في هذا الموضع من تفسيره للسورة في « جزء عم » لفتة لطيفة تتسق في روحها مع روح هذه « الظلال » فنستعيرها منه هنا.. قال رحمه الله :

(١) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (١٥ / ١٥٦٦)


الصفحة التالية
Icon