« ثم أقسم بوالد وما ولد، ليلفت نظرنا إلى رفعة قدر هذا الطور من أطوار الوجود وهو طور التوالد وإلى ما فيه من بالغ الحكمة وإتقان الصنع، وإلى ما يعانيه الوالد والمولود في إبداء النشء وتكميل الناشئ، وإبلاغه حده من النمو المقدر له ».
« فإذا تصورت في النبات كم تعاني البذرة في أطوار النمو : من مقاومة فواعل الجو، ومحاولة امتصاص الغذاء مما حولها من العناصر، إلى أن تستقيم شجرة ذات فروع وأغصان، وتستعد إلى أن تلد بذرة أو بذوراً أخرى تعمل عملها، وتزين الوجود بجمال منظرها إذا أحضرت ذلك في ذهنك، والتفت إلى ما فوق النبات من الحيوان والإنسان، حضر لك من أمر الوالد والمولود فيهما ما هو أعظم، ووجدت من المكابدة والعناء الذي يلاقيه كل منهما في سبيل حفظ الأنواع، واستبقاء جمال الكون بصورها ما هو أشد وأجسم ».. انتهى..
يقسم هذا القسم على حقيقة ثابتة في حياة الكائن الإنساني :﴿ لقد خلقنا الإنسان في كبد ﴾..
في مكابدة ومشقة، وجهد وكد، وكفاح وكدح.. كما قال في السورة الأخرى :﴿ يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه ﴾.. الخلية الأولى لا تستقر في الرحم حتى تبدأ في الكبد والكدح والنصب لتوفر لنفسها الظروف الملائمة للحياة والغذاء بإذن ربها وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج، فتذوق من المخاض إلى جانب ما تذوقه الوالدة ما تذوق. وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضغط ودفع حتى كاد يختنق في مخرجه من الرحم!
ومنذ هذه اللحظة يبدأ الجهد الأشق والكبد الأمر. يبدأ الجنين ليتنفس هذا الهواء الذي لا عهد له به، ويفتح فمه ورئتيه لأول مرة ليشهق ويزفر في صراخ يشي بمشقة البداية! وتبدأ دورته الهضمية ودورته الدموية في العمل على غير عادة! ويعاني في إخراج الفضلات حتى يروض أمعاءه على هذا العمل الجديد! وكل خطوة بعد ذلك كبد، وكل حركة بعد ذلك كبد. والذي يلاحظ الوليد عندما يهم بالحبو وعندما يهم بالمشي يدرك كم يبذل من الجهد العنيف للقيام بهذه الحركة الساذجة.
وعند بروز الأسنان كبد. وعند انتصاب القامة كبد. وعند الخطو الثابت كبد. وعند التعلم كبد. وعند التفكر كبد. وفي كل تجربة جديدة كبد كتجربة الحبو والمشي سواء!
ثم تفترق الطرق، وتتنوع المشاق؛ هذا يكدح بعضلاته. وهذا يكدح بفكره. وهذا يكدح بروحه. وهذا يكدح للقمة العيش وخرقة الكساء. وهذا يكدح ليجعل الألف ألفين وعشرة آلاف.. وهذا يكدح لملك أو جاه، وهذا يكدح في سبيل الله. وهذا يكدح لشهوة ونزوة. وهذا يكدح لعقيدة ودعوة. وهذا يكدح إلى النار. وهذا يكدح إلى الجنة.. والكل يحمل حمله ويصعد الطريق كادحاً إلى ربه فيلقاه! وهناك يكون الكبد الأكبر للأشقياء. وتكون الراحة الكبرى للسعداء.