قال الإمام : ولقلة أوقات الظُّلمة عبَّر في جانبها بالمضارع لا مفيد للحاق الشيء وعروضه متأخراً عما هو أصل في نفسه. أما النهار فإنه يجلي الشمس دائماً من أوله إلى آخره ؛ وذلك شأن له في ذاته، ولا ينفك عنه إلا لعارض كالغيم أو الكسوف قليل العروض.. ولهذا عبَّر في جانبه بالماضي المفيد لوقوع المعنى من فاعله، بدون إفادة أنه مما ينفك عنهُ. (١)
في السورة قسم رباني بما عدده من مظاهر الكون والخلق ونواميسها بأن المفلح السعيد من طهر نفسه باتباع الهدى وعمل الصالحات والتزام حدود اللّه، وبأن الخاسر الشقي من أفسدها بالضلال والتمرد والأفعال المنكرة. وفيها كذلك تذكير بما كان من تكذيب ثمود لنبيهم وطغيانهم وجرأة أحدهم نتيجة لذلك على عقر ناقة اللّه دون أبوه بتحذير نبيهم وبما كان من نكال اللّه فيهم.
والسورة احتوت تقريرا عام التوجيه مستمر المدى لأهداف الدعوة في تطهير النفس والتسامي بها عن الإثم والغواية، وتبشير المستقيمين بالفلاح والمنحرفين بالخسران. والإطلاق في كلمتي (زكاها ودساها) يمكن أن يتناول الطهارة الدينية والدنيوية أو الروحية والأخلاقية أو الفساد الديني والدنيوي أو الروحي والأخلاقي معا، كما أن الفلاح والخيبة الواردين مع الكلمتين يمكن أن يتناولا الدنيا والآخرة معا، وفي كل ذلك من جلال التلقين وشموله ما هو ظاهر.
وجملة وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) تعني نفس الإنسان دون الأحياء الأخرى كما هو ظاهر من مضامين الآيات الثلاث التالية لها.
ولما كان اللّه عز وجل قد خلق كل شيء وأحسن خلقه كما جاء في آيات أخرى منها آية سورة السجدة هذه : الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [٧] فإن في ذكر الإنسان بما جاء في الآيات [٧ - ١٠] معنى من معاني التنويه به وما اختصه اللّه به من إدراك وأودعه فيه من قابليات. ومعنى من معاني التنبيه على أنه ملزم دون غيره من الأحياء نتيجة لذلك بمسؤولية سلوكه. وفي هذا ما فيه من تكريم للإنسان وتحميله مسؤولية عن هذا التكريم. وقد تكررت هذه المعاني كثيرا في القرآن حيث ينطوي في ذلك خطورة ما تهدف إليه.
ولقد روى مسلم والترمذي عن عمران بن حصين قال :«إن رجلين من مزينة أتيا رسول اللّه - ﷺ - فقالا يا رسول اللّه أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه.
أشيء قضي عليهم ومضى أو فيما يستقبلون به. فقال لا بل شيء قضي عليهم.
وتصديق ذلك في كتاب اللّه عز وجل وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨)»
حيث ينطوي في الحديث تفسير للآية مفاده أن ما يفعله الإنسان من خير وشر هو بقضاء رباني

(١) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (١٣ / ٢٣٣)


الصفحة التالية
Icon