قال الإمام : وإنما أقسم بذاته بهذا العنوان، لما فيه من الإشعار بصفة العلم المحيط بدقائق المادة وما فيها، والإشارة إلى الإبداع في الصنع ؛ إذ لا يعقل أن هذا التخالف بين الذكر والأنثى، في الحيوان، يحصل بمحض الاتفاق من طبيعة لا شعور لها بما تفعل، كما يزعم بعض الجاحدين، فإن الأجزاء الأصلية في المادة متساوية النسبة إلى كون الذكر أو كون الأنثى، فتكوين الولد من عناصر واحدة تارةً ذكراً وتارةً أنثى، دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل، محكم فيما يضع ويصنع. انتهى.
قال الإمام : الخطة العسرى هي الخطة التي يحط فيها الْإِنْسَاْن من نفسه، ويغض من حقها وينزل بها إلى حضيض البهيمية، ويغمسها في أوحال الخطيئة. وهي أعسر الخطتين على الْإِنْسَاْن، لأنه لا يجد معيناً عليها، لا من فطرته ولا من الناس. (١)
قوله تعالى :« وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى » قسم بالليل حين يغشى ظلامه الكائنات، ويغطّى سواده وجه الأرض..
وبدء السورة بهذا القسم ـ كما قلنا ـ هو أشبه براية سوداء تحوّم على مواطن ثمود، التي دمدم اللّه عليها، كما تحوم الغربان على الرمم.. ثم إنه من جهة أخرى، يمثل الجانب الأعظم من جانبى الإنسانية، جانبى الكفر والإيمان، والضلال، والهدى، والظلام والنور.. فأغلب الناس على ضلال، وقليل منهم المهتدون، كما يقول سبحانه :« وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ » (١٠٣ : يوسف) وفى التعبير بفعل المستقبل « يغشى » عن ظلام الليل ـ إشارة إلى أن الظلام عارض دخيل، يعرض للنور الذي هو أصل الوجود، كما يعرض الضلال للفطرة الإنسانية التي خلقها اللّه تعالى صافية لا شية فيها.
وقوله تعالى :« وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى » معطوف على قوله تعالى :« وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ».. وهو قسم بالنهار إذا ظهر، وتجلّى على الوجود ضوءه.. وفى تقديم الليل على النهار، إشارة إلى هذا الظلام الذي كان منعقدا فى أفق الحياة الإنسانية حين كانت ثمود تتحرك بطغيانها على الأرض، فلما دمدم اللّه عليهم الأرض، ورمى فى أحشائها بهذا الظلام ـ عاد إلى الحياة صفاؤها، وطلع نهارها!!
وقوله تعالى :« وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى » : معطوف على قوله تعالى :« وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى » و« ما » هنا مصدرية.. أي وخلق الذكر والأنثى، وما أودع الخالق فى كلّ منهما من آيات علمه، وحكمته، ورحمته..

(١) - محاسن التأويل تفسير القاسمي - (١٣ / ٢٣٨)


الصفحة التالية
Icon