وبعد التذكير بهذه النعم، ذكر اللَّه تعالى أن ذلك جار على وفق سنته، من إيراد اليسر بعد العسر، فقال ردّا على المشركين الذين كانوا يعيرون رسول اللَّه - ﷺ - بالفقر : فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً أي إن مع ذلك العسر المذكور سابقا يسرا، وإن مع الضيق فرجا، وقد أكّد تعالى ذلك في الجملة الثانية. وفي هذا بشارة لرسول اللَّه - ﷺ - وتسلية له أنه سيبدل حاله من فقر إلى غنى، ومن ضعف إلى عزة وقوة، ومن عداوة قومه إلى محبتهم. والأظهر أن المراد باليسرين : الجنس، ليكون وعدا عاما لجميع المكلفين في كل عصر، ويشمل يسر الدنيا ويسر الآخرة، ويسر العاجل والآجل.
قال الفراء والزجاج : العسر مذكور بالألف واللام، وليس هناك معهود سابق، فينصرف إلى الحقيقة، فيكون المراد بالعسر في اللفظين شيئا واحدا. وأما اليسر فإنه مذكور على سبيل التنكير، فكان أحدهما غير الآخر.
يؤيد ذلك ما رواه الحاكم عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ حُصِرَ بِالشَّامِ وَقَدْ تَأَلَّبَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ :" سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ مَا يَنْزِلُ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مَنْزِلَةِ شِدَّةٍ إِلَّا يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ بَعْدَهَا فَرَجًا وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " قَالَ : فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ :" سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ إِلَى آخِرِهَا قَالَ : فَخَرَجَ عُمَرُ بِكِتَابِهِ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَرَأَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ قَالَ : يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، إِنَّمَا يُعَرِّضُ بِكُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنِ ارْغَبُوا فِي الْجِهَادِ " (١).
وعَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ : إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، قَالَ : خَرَجَ النَّبِيُّ - ﷺ - يَوْمًا مَسْرُورًا فَرِحًا وَهُوَ يَضْحَكُ، وَهُوَ يَقُولُ : لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" (٢)
ثم أمره ربه بمهام تتناسب مع مقامه ومع شكر هذه النعم السابقة واللاحقة من اليسر والظفر، فقال : فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أي إذا فرغت من تبليغ الدعوة، أو من الجهاد، أو مشاغل الدنيا وعلاقاتها، فأتعب نفسك في العبادة، واجتهد في الدعاء، واطلب من اللَّه حاجتك، وأخلص لربّك النيّة والرغبة. وهذا دليل على طلب الاستمرار في العمل الصالح والخير والمثابرة على الطاعة لأن استغلال الوقت مطلوب شرعا، وإن اللَّه يكره العبد البطال.
(٢) - المستدرك للحاكم (٣٩٥٠) صحيح مرسل