بين الأجرام والعوالم! المسافة بين التلقي من الأرض والتلقي من السماء. بين الاستمداد من الهوى والاستمداد من الوحي. بين الجاهلية والإسلام. بين البشرية والربانية، وهي أبعد مما بين الأرض والسماء في عالم الأجرام!
وكانوا يعرفون مذاقها. ويدركون حلاوتها. ويشعرون بقيمتها، ويحسون وقع فقدانها حينما انتقل رسول الله - ﷺ - إلى الرفيق الأعلى، وانقطعت هذه الفترة العجيبة التي لا يكاد العقل يتصورها لولا أنها وقعت حقاً.
عن أنس رضي الله عنه قال : قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد وفاة رسول الله - ﷺ - انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله - ﷺ - يزورها. فلما أتيا إليها بكت. فقالا لها : ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله - ﷺ - ؟ قالت : بلى، إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسول - ﷺ - ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء. فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها... ( أخرجه مسلم )..
ولقد ظلت آثار هذه الفترة تعمل في حياة البشر منذ تلك اللحظة إلى هذه اللحظة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد ولد الإنسان من جديد باستمداد قيمه من السماء لا من الأرض، واستمداد شريعته من الوحي لا من الهوى.
لقد تحول خط التاريخ كما لم يتحول من قبل قط، وكما لم يتحول من بعد أيضاً. وكان هذا الحدث هو مفرق الطريق. وقامت المعالم في الأرض واضحة عالية لا يطمسها الزمان، ولا تطمسها الأحداث. وقام في الضمير الإنساني تصور للوجود وللحياة وللقيم لم يسبق أن اتضح بمثل هذه الصورة. ولم يجيء بعده تصور في مثل شموله ونصاعته وطلاقته من اعتبارات الأرض جميعاً، مع واقعيته وملاءمته للحياة الإنسانية. ولقد استقرت قواعد هذا المنهج الإلهي في الأرض! وتبينت خطوطه ومعالمه. ﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة ﴾ لا غموض ولا إبهام. إنما هو الضلال عن علم، والانحراف عن عمد، والالتواء عن قصد!
إنه الحادث الفذ في تلك اللحظة الفريدة. الحادث الكوني الذي ابتدأ به عهد في هذه الأرض وانتهى عهد. والذي كان فرقاناً في تاريخ البشر لا في تاريخ أمة ولا جيل، والذي سجلته جنبات الوجود كله وهي تتجاوب به، وسجله الضمير الإنساني. وبقي أن يتلفت هذا الضمير اليوم على تلك الذكرى العظيمة ولا ينساها. وأن يذكر دائماً أنه ميلاد جديد للإنسانية لم يشهده إلا مرة واحدة في الزمان..
ذلك شأن المقطع الأول من السورة. فأما بقيتها فواضح أنها نزلت فيما بعد. فهي تشير إلى مواقف وحوادث في السيرة لم تجيء إلا متأخرة، بعد تكليف الرسول - ﷺ - إبلاغ الدعوة،