والجهر بالعبادة، وقيام المشركين بالمعارضة. وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في السورة :﴿ أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى؟ ﴾.. الخ
ولكن هناك تناسقاً كاملاً بين أجزاء السورة، وتسلسلاً في ترتيب الحقائق التي تضمنتها بعد هذا المطلع المتقدم.
يجعل من السورة كلها وحدة منسقة متماسكة..
﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم ﴾.. إنها السورة الأولى من هذا القرآن، فهي تبدأ باسم الله. وتوجه الرسول - ﷺ - أول ما توجه، في أول لحظة من لحظات اتصاله بالملأ الأعلى، وفي أول خطوة من خطواته في طريق الدعوة التي اختير لها.. توجهه إلى أن يقرأ باسم الله :﴿ اقرأ باسم ربك ﴾..
وتبدأ من صفات الرب بالصفة التي بها الخلق والبدء :﴿ الذي خلق ﴾. ثم تخصص : خلق الإنسان ومبدأه :﴿ خلق الإنسان من علق ﴾.. من تلك النقطة الدموية الجامدة العالقة بالرحم. من ذلك المنشأ الصغير الساذج التكوين. فتدل على كرم الخالق فوق ما تدل على قدرته. فمن كرمه رفع هذا العلق إلى درجة الإنسان الذي يُعلم فيتعلم :﴿ اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم ﴾..
وإنها لنقلة بعيدة جداً بين المنشأ والمصير. ولكن الله قادر. ولكن الله كريم. ومن ثم كانت هذه النقلة التي تدير الرؤوس!
وإلى جانب هذه الحقيقة تبرز حقيقة التعليم.. تعليم الرب للإنسان ﴿ بالقلم ﴾.. لأن القلم كان وما يزال أوسع وأعمق أدوات التعليم أثراً في حياة الإنسان.. ولم تكن هذه الحقيقة إذ ذاك بهذا الوضوح الذي نلمسه الآن ونعرفه في حياة البشرية. ولكن الله سبحانه كان يعلم قيمة القلم، فيشير إليه هذه الإشارة في أول لحظة من لحظات الرسالة الأخيرة للبشرية. في أول سورة من سور القرآن الكريم.. هذا مع أن الرسول الذي جاء بها لم يكن كاتباً بالقلم، وما كان ليبرز هذه الحقيقة منذ اللحظة الأولى لو كان هو الذي يقول هذا القرآن. لولا أنه الوحي، ولولا أنها الرسالة!
ثم تبرز مصدر التعليم.. إن مصدره هو الله. منه يستمد الإنسان كل ما علم، وكل ما يعلم. وكل ما يفتح له من أسرار هذا الوجود، ومن أسرار هذه الحياة، ومن أسرار نفسه. فهو من هناك. من ذلك المصدر الواحد، الذي ليس هناك سواه.
وبهذا المقطع الواحد الذي نزل في اللحظة الأولى من اتصال الرسول - ﷺ - بالملأ الأعلى، بهذا المقطع وضعت قاعدة التصور الإيماني العريضة..