وكان إلى جوار هؤلاء عبدة الأوثان من العرب وغيرهم ممن مرنت نفوسهم على عبادتها، والخنوع لها، وأصبح من العسير تحويلهم عنها، زعما منهم أن هذا دين الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وكان الجدل ينشب حينا بين المشركين واليهود، وحينا آخر بين المشركين والنصارى، وكان اليهود يقولون للمشركين : إن اللّه سيبعث نبيا من العرب من أهل مكة، وينعتونه لهم ويتوعدونهم بأنه متى جاء نصروه، وآزروه، واستنصروا به عليهم حتى يبيدهم.
قد كان هذا وذاك، فلما بعث محمد - ﷺ - قام المشركون يناوئونه ويرفعون راية العصيان فى وجهه، وألّبوا الناس عليه، وآذوا كل من اتبعه وسلك سبيله ممن أنار اللّه بصائرهم، وشرح صدورهم لمعرفة الحق.
كذلك قلب له اليهود ظهر المجنّ بعد أن كانوا من قبل يستفتحون به، إذا وجدوا نعته عندهم فى التوراة، فزعموا أن ما جاء به من الدين ليس بالبدع الجديد، بل هو معروف فى كتبهم التي جاءت على لسان أنبيائهم، فلا ينبغى أن يتركوا ما هم عليه من الحق، ليتبعوا رجلا ما جاء بأفضل مما بين أيديهم، بل قد بلغ الأمر بهم أن كانوا عليه مع المشركين الذين كانوا يعاندونهم ويتهددونهم بأنهم سيتبعون هذا النبي وينصرونه.
ففى الرد على مزاعم هؤلاء الكافرين الذين يجحدون واضح الحق، ويغمضون أعينهم عن النظر فيه - نزلت هذه السورة. (١)
أرسل النبي - ﷺ - إلى الناس أجمعين، أرسل لهم بالهدى ودين الحق، ليخرجهم من ظلمات الجهالة، وفساد العقيدة، وذل التقليد الأعمى، وكان الكفار من أهل الكتاب أو المشركين سواء في البعد عن الحق والدين الصحيح. أما أهل الكتاب فبعد أن فارقهم موسى وعيسى تخبطوا وحرفوا الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه وأصبح دينهم خليطا ممقوتا فيه إلى جانب الحق البسيط ضلالات وضلالات، وأما المشركون الذين لا يقولون بالتوحيد ولا يؤمنون بالبعث كمشركي مكة، فقد تردوا في الباطل إلى أقصاه، وأصبح دينهم مسخا من عقائد جاهلية وتقاليد بالية حسبوها دين إبراهيم الخليل، واللّه يعلم أنه منها برىء.
ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب الذين كانوا يستفتحون على الذين كفروا من المشركين ببعثة النبي العربي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فلما جاءهم ما عرفوا - بعثة النبي - كفروا به، ولهذا ذكرهم أولا، على أنهم أشد جرما من المشركين الذين يجهلون الحق

(١) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (٣٠ / ٢١٢)


الصفحة التالية
Icon