هو مقام قلق، وإزعاج، لا ينبغى للعاقل أن يقيم وجوده عليه، بل ينبغى أن يسعى إلى التحول عنه، والنظر إلى ما وراءه، والرجاء فى حياة أكرم، وأفضل، وأبقى..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى :« فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً » (١١٠ : الكهف) قوله تعالى :« وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً » أي وكل شىء كان أو يكون فى هذا الوجود محصّى فى كتاب مبين..
وكذلك أعمال هؤلاء المكذبين الضالين محصاة عليهم، مسجلة فى كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
قوله تعالى :. « فَذُوقُوا.. فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً »هو من سياط البلاء والنكال التي تنهال على أصحاب النار، وهم على هذا المورد الوبيل، أن يشربوا من هذا العذاب، وأن يتجرعوا كئوسه الملأى بالحميم والغساق، وأن ما هم فيه فى لحظتهم تلك أهون مما يذوقونه فى كل لحظة آتية.. إنهم ينتقلون من عذاب إلى ما هو أشد منه، حالا بعد حال، ولحظة بعد لحظة، فليبادروا بشرب ما بأيديهم، قبل أن يشتد لهيبا، ويزداد غليانا (١)
إن الناس لم يخلقوا عبثاً، ولن يتركوا سدى. والذي قدر حياتهم ذلك التقدير الذي يشي به المقطع الماضي في السياق، ونسق حياتهم مع الكون الذي يعيشون فيه ذلك التنسيق، لا يمكن أن يدعهم يعيشون سدى ويموتون هملاً! ويصلحون في الأرض أو يفسدون ثم يذهبون في التراب ضياعاً! ويهتدون في الحياة أو يضلون ثم يلقون مصيراً واحداً. ويعدلون في الأرض أو يظلمون ثم يذهب العدل والظلم جميعاً!
إن هناك يوماً للحكم والفرقان والفصل في كل ما كان. وهو اليوم المرسوم الموعود الموقوت بأجل عند الله معلوم محدود :﴿ إن يوم الفصل كان ميقاتاً ﴾.. وهو يوم ينقلب فيه نظام هذا الكون وينفرط فيه عقد هذا النظام.
﴿ يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً. وفتحت السماء فكانت أبواباً، وسيرت الجبال فكانت سراباً ﴾..
والصور : البوق. ونحن لا ندري عنه إلا اسمه. ولا نعلم إلا أنه سينفخ فيه. وليس لنا أن نشغل أنفسنا بكيفية ذلك. فهي لا تزيدنا إيماناً ولا تأثراً بالحادث. وقد صان الله طاقتنا عن أن تتبدد في البحث وراء هذا الغيب المكنون، وأعطانا منه القدر الذي ينفعنا فلا نزيد! إنما نحن نتصور النفخة الباعثة المجمعة التي يأتي بها الناس أفواجاً.. نتصور هذا المشهد والخلائق التي توارت شخوصها جيلاً بعد جيل، وأخلت وجه الأرض لمن يأتي بعدها كي لا يضيق بهم

(١) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (١٥ / ١٤١٩)


الصفحة التالية
Icon