وجه الأرض المحدود.. نتصور مشهد هذه الخلائق جميعاً.. أفواجاً.. مبعوثين قائمين آتين من كل فوج إلى حيث يحشرون. ونتصور الأجداث المبعثرة وهذه الخلائق منها قائمة. ونتصور الجموع الحاشدة لا يعرف أولها آخرها، ونتصور هذا الهول الذي تثيره تلك الحشود التي لم تتجمع قط في وقت واحد وفي ساعة واحدة إلا في هذا اليوم.. أين؟ لا ندري.. ففي هذا الكون الذي نعرفه أحداث وأهوال جسام :﴿ وفتحت السماء فكانت أبواباً. وسيرت الجبال فكانت سراباً ﴾..
السماء المبنية المتينة.. فتحت فكانت أبواباً.. فهي منشقة. منفرجة. كما جاء في مواضع وسور أخرى. على هيئة لا عهد لنا بها. والجبال الرواسي الأوتاد سيرت فكانت سراباً. فهي مدكوكة مبسوسة مثارة في الهواء هباء، يحركه الهواء كما جاء في مواضع وسور أخرى. ومن ثم فلا وجود لها كالسراب الذي ليس له حقيقة. أو إنها تنعكس إليها الأشعة وهي هباء فتبدو كالسراب!
إنه الهول البادي في انقلاب الكون المنظور، كالهول البادي في الحشر بعد النفخ في الصور.
وهذا هو يوم الفصل المقدر بحكمة وتدبير..
ثم يمضي السياق خطوة وراء النفخ والحشر، فيصور مصير الطغاة ومصير التقاة. بادئاً بالأولين المكذبين المتسائلين عن النبأ العظيم : إن جهنم كانت مرصاداً، للطاغين مآباً، لابثين فيهآ أحقاباً. لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً، إلا حميماً وغساقاً. جزآء وفاقاً. إنهم كانوا لا يرجون حساباً، وكذبوا بآياتنا كذاباً. وكل شيء أحصيناه كتاباً. فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً }
إن جهنم خلقت ووجدت وكانت مرصاداً للطاغين تنتظرهم وتترقبهم وينتهون إليها فإذا هي معدة لهم، مهيأة لاستقبالهم. وكأنما كانوا في رحلة في الأرض ثم آبوا إلى مأواهم الأصيل! وهم يردون هذا المآب للإقامة الطويلة المتجددة أحقاباً بعد أحقاب :﴿ لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً ﴾.. ثم يستثني.. فإذا الاستثناء أمرّ وأدهى :﴿ إلا حميماً وغساقاً ﴾.. إلا الماء الساخن يشوي الحلوق والبطون. فهذا هو البرد! وإلا الغساق الذي يغسق من أجساد المحروقين ويسيل. فهذا هو الشراب!
﴿ جزاء وفاقاً ﴾.. يوافق ما أسلفوا وما قدموا.. ﴿ إنهم كانوا لا يرجون حساباً ﴾.. ولا يتوقعون مآباً.. ﴿ وكذبوا بآياتنا كذاباً ﴾.. وجرس اللفظ فيه شدة توحي بشدة التكذيب وشدة الإصرار عليه. بينما كان الله يحصي عليهم كل شيء إحصاء دقيقاً لا يفلت منه حرف :{ وكل


الصفحة التالية
Icon