لتحقيقها، والموضوعات الإلهية والتشريعية التي تناولها... كل أولئك مباحث ليست من همنا هنا ؛ وإذا كان بعضها قد جاء عرضا في ثنايا الفصول الماضية، فإنما جئنا به لننظر كيف تناوله القرآن، وكيف سلك في التعبير عنه. وبعض الناس حين ينظر في هذه الموضوعات، ويرى ما فيها من دقة وعظمة، وصلاحية ومرونة، وإحاطة وشمول، يحسبها ميزة القرآن الكبرى، ويحسب أن طريقة التعبير القرآنية تابعة لها، وأن الإعجاز كله كامن فيها ؛ كما أن بعضهم يفرق بين المعاني وطريقة الأداء، ويتحدث عن إعجاز القرآن في كل منهما على انفراد.
أما نحن فنريد أن نقول : إن الطريقة التي اتبعها القرآن في التعبير، هي التي أبرزت هذه الأغراض والموضوعات ؛ فهي كفاء هذه الأغراض والموضوعات.
ولا يردنا هذا إلى تلك المباحث العقيمة حول اللفظ والمعنى - وقد استغرقت من النقاد العرب ما استغرقت مند أن أثارها الجاحظ، فزعم أن المعاني ملقاة على قارعة الطريق ؛ ثم تابعه في البحث ابن قتيبة وقدامة وأبو هلال العسكري وغيرهم مخالفين ومؤيدين - وإنا لنحسب أن " عبد القاهر " قد وصل فيها إلى رأي حاسم حين انتهى في " دلائل الإعجاز " إلى أن اللفظ وحده، لا يتصور عاقل أن يدور حوله بحث من حيث هو لفظ، إنما من حيث دلالته يدور البحث فيه. وأن المعنى وحده لا يتصور عاقل أن يدور حوله بحث من حيث هو خاطر في الضمير، إنما من حيث أنه ممثل في لفظ يدور البحث فيه. وأن المعنى مقيد في تحديده بالنظم الذي يؤدي به، فلا يمكن أن يختلف النظمان. ثم يتحد المعنى تمام الاتحاد.
لم يصغ " عبد القاهر " القضية هذه الصياغة المختصرة، فنحن نترجم عنه ؛ وإلا فقد استغرق فيها كتابا لا نستطيع نقله هنا، ولا نقل فقرات منه كالتي نقلناها في أول هذا الكتاب، بذلك الأسلوب المعقد الذي رأيناه هناك.
ولكن له فضله العظيم في تقرير هذه القضية، ولو خطا خطوة واحدة في التعبير الحاسم عنها، لبلغ الذروة في النقد الفني، فنقول نحن عنه : إن طريقة الأداء حاسمة في تصوير المعنى ؛ وإنه حيثما اختلفت طريقتان للتعبير عن المعنى الواحد اختلفت