وهكذا تصل إلى النفس تلك الأصداء كلها، وتلك الظلال جميعها، من وراء التعبير المصور المشخص. فأين يقع التعبير الذهني، من هذا التصوير الفني ؟
٤- ويقال : إن أعمال الذين كفروا لا حساب لها ولا وزن، وأنهم يخدعون أنفسهم حين يظنونها شيئا ؛ أو أنهم في ضلال دائم، لا مخرج لهم منه، ولا هادي لهم فيه. فيؤدي المعنى إلى الذهن حيث يركد هناك. ولكنه يحيا ويتحرك، ويجيش به الحس والخيال، حين يؤدي في هذه الهيئة التصويرية :" وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ". أو " أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ". هنا صور فنية ساحرة، فيها روح القصة، وفيها تخييل قوي.... وهي بعد في حاجة إلى ريشة مبدعة، لو أريد تصويرها بالألوان، وإلى عدسة يقظة، لو أريد تصويرها بالحركات. بل أين هي الريشة، أو أين هي العدسة، التي تستطيع أن تبرز هذه الظلمات :" فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ". ؟
أو تصور الظمآن، يسير وراء السراب " حتى إذا جاءه لم يجده شيئا " ووجد مفاجأة عجيبة - لم تكد تخطر له على بال - " وَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ " وفي سرعة خاطفة تناوله " فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ " ؟
فإذا ذكرنا الغرض الديني الذي رسمت له هذه الصورة، فلنذكر معه المتاع الفني الطريف، في هذا التصوير الحي الجميل.
٥- ومن هذا الوادي تصوير معنى الضلال بعد الهدى، وضياع الجهد معه سدى، تلك الصور الحية المتتابعة :" أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ. مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ


الصفحة التالية
Icon