ومناكب الأرض، هى أجزاؤها العليا فيها، أشبه بمنكبي الإنسان، وهما جانبا الكتفين.. وهذا يعنى أن يستدعى الإنسان قواه كلها، وأن يعمل فى الحياة عملا جادّا، يحشد له طاقانه الجسدية والعقلية، حتى يأخذ مكانا متمكنا من الأرض، يستطيع به أن يقهر قوى الطبيعة فيها، وأن يقودها بقوته، وأن يتحكم فيها بسلطانه.. فهذا هو مكان الإنسان الذي يعرف قدر إنسانيته، ويحترم وجوده بين المخلوقات فيها.. إنه الخليفة على هذه الأرض، ومقام الخلافة يقتضيه أن يأخذ مكان الصدارة فيها، وأن يجلس مجلس السلطان من رعيته..
وفى تعدية الفعل « امشوا » بحرف الجر « فى » بدلا من « على » ـ إشارة إلى أن ينفذ الإنسان في أعماق هذه المناكب، وإلى أن يعمل على كشف أسرارها، لا مجرد اتخاذها طريقا يمشي عليه..
وقوله تعالى :« وَإِلَيْهِ النُّشُورُ » هو خاتمة مطاف الإنسان، بعد انتهاء رحلته فى الأرض.. فهو بعد هذه الرحلة، تطوى صفحة وجوده على الأرض، ثم تنشر حياته من جديد، بين يدى اللّه فى الحياة الآخرة.. "
أي إن اللّه هو الذي سخّر لكم الأرض وذلّلها لكم، وجعلها سهلة لينة قابلة للاستقرار عليها، لا تميد ولا تضطرب، بما جعل فيها من الجبال، وفجّر فيها الينابيع، وشقّ الطرق، وهيّأ المنافع، وأنبت فيها الزروع وأخرج الثمار، فسيروا في جوانبها وأقطارها وأرجائها حيث شئتم بحثا عن المكاسب والتجارات والأرزاق، ولا يغني السعي شيئا عن تيسير اللّه، لذا قال تعالى : وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ أي مما رزقكم وخلقه لكم في الأرض، ومكّنكم من الانتفاع بها، وأعطاكم القدرات على تحصيل خيراتها، ثم اعلموا أنكم في النهاية صائرون إليه، فإليه النشور، أي البعث من قبوركم، لا إلى غيره، وإليه المرجع يوم القيامة، فاحذروا الكفر والمعاصي في السر والعلن.
والآية دليل على قدرة اللّه ومزيد إنعامه على خلقه، وعلى أن السعي واتخاذ الأسباب لا ينافي التوكل على اللّه، وعلى أن الاتجار والتكسب مندوب إليه.


الصفحة التالية
Icon