٦. الاستكبار في الأرض واستحباب العمى على الهدى :
قال تعالى :﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (١٨)﴾ فصلت
أَمَّا عَادٌ فَإِنَّهُمْ بَغَوْا وَعَصَوْا رَبَّهُمْ، وَاغْتَرُّوا بِقُوَّتِهِمْ فَقَالُوا : مَنْ أَشَدُّ مِنّا قُوّةً حَتَّى يَسْتَطِيعَ قَهْرَنَاً وَإِذْلاَلَنَا؟ وَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مُوَبِّخاً : أَلاَ يَتَفَكَّرُونَ فِيمَنْ يُبَارِزُونَ بِالعَدَاوَةِ؟ إِنَّهُ العَظِيمُ الذِي خَلَقَ الأَشْيَاءَ، وَرَكَّبَ فِيهَا القُوَّةَ الحَامِلَةَ لَهَا، وَإِنَّ بَطْشَهُ شَدِيدٌ، وَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْزِلَ فِيهِمْ بَأْسَهُ وَعَذَابَهُ. وَكَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ آيَاتِ اللهِ التِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسَلِهِ حَقٌّ لاَ شَكَّ فِيهَا، وَلَكِنَّهُمْ جَحَدُوهَا، وَعَصَوا رُسُلَ رَبِّهِمْ. فَأَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ رَيحاً شَدِيدَةَ الهُبُوبِ، أَوْ شَدِيدَةَ البُرُودَةِ ( صَرْصَراً ) تُهْلِكُ بِشِدَّتِهَا أَوْ بِشِدَّةِ بُرُودَتَهَا، وَإِذَا هَبَّتْ سُمِعَ لَهَا صَوْتٌ قَوِيٌّ لِتَكُونَ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى اغْتِرَارِهِمْ بِقُوَّتِهِمْ، وَقَدْ أَرْسَلَهَا اللهُ عَلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ شُؤْمٍ مُتَتَابِعَةٍ ( نَحِسَاتٍ )، لِيُذِيقَهُمْ عَذَابَ الذُّلِّ وَالهَوَانِ فِي الحِيَاةِ الدُّنْيَا بِسَبَبِ ذَلِكَ الاسْتِكْبَارِ. وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ خِزْياً وَإِهَانَةً مِنْ عِذَابِ الدُّنْيَا، وَلاَ يَجِدُونَ فِي يَوْمِ القِيَامَةِ نَصِيراً وَلاَ مُعِيناً. أَمَّا ثَمُودُ فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَهُمُ الحَقَّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِمْ صَالِحٍ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَكَذَّبُوهُ وَاسْتَحَبّوا العَمَى عَلَى الهُدَى، وَالكُفْرَ عَلَى الإِيْمَانِ، فَأَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَرَجْفَةً وَذُلاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الكُفْرِ والآثَامِ، وَتَكْذِيبِ رُسُلِ اللهِ.
وَنَجَّى اللهُ تَعَالَى صَالِحاً وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ العَذَابِ، فَلَمْ يُوقِعْهُ بِهِمْ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ، وَأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَاتِ.
وهذا الإنذار المرهوب المخيف: (فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) يناسب شناعة الجرم وقبح الذنب، وتبجح المشركين الذي حُكي في مطلع السورة، وشذوذ كفار البشر من موكب الوجود الكبير الذي عُرض قبل هذا الإنذار. وقد روى ابن اسحاق قصة عن هذا الإنذار قال: حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيداً، قال يوماً وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله ﷺ جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا ؟ - وذلك حين اسلم حمزة - رضي الله عنه - ورأوا أصحاب رسول الله ﷺ يزيدون ويكثرون - فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه. فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله ﷺ فقال: يابن أخي. إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب وأنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم. فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" قل يا ابا الوليد أسمع ". قال: يابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ; وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك ; وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا ; وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء، وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه.. أو كما قال.. حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله ﷺ يستمع منه قال:" أفرغت يا أبا الوليد ؟ " قال: نعم. قال:" فاستمع مني ". قال: أفعل. قال: بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون، بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ثم مضى رسول الله ﷺ فيها وهو يقرؤها عليه. فلما سمع عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره، معتمداً عليهما، يستمع منه حتى انتهى رسول الله ﷺ إلى السجدة منها فسجد، ثم قال:" قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك " فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي.. خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ! قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم. وقد روى البغوي في تفسيره حديثاً بسنده عن محمد بن فضيل عن الأجلح - وهو ابن عبدالله الكندي الكوفي [ قال ابن كثير: وقد ضُعف بعض الشيء ] عن الزيال بن حرملة عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - إلى قوله:(فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) فأمسك عتبه على فيه. وناشده الرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، واحتبس عنهم... الخ.. ثم لما حدثوه في هذا قال:" فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف. وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب. فخشيت أن ينزل بكم العذاب ".. فهذه صورة من وقع هذا الإنذار من فم رسول الله ﷺ على قلب رجل لم يؤمن ! ولانترك هذه الرواية قبل أن نقف وقفة قصيرة أمام صورة رسول الله ﷺ وأدب النفس الكبيرة وطمأنينة القلب المؤمن. وهو يستمع من عتبة إلى هذه الخواطر الصغيرة التي يعرضها عليه، وقلبه مشغول بما هو اعظم، حتى لتبدو هذه الخواطر مقززة تثير الاشمئزاز: ولكن الرسول ﷺ يتلقاها حليماً، ويستمع كريماً، وهو مطمئن هادىء ودود. لا يعجل عتبة عن استكمال هذه الخواطر الصغيرة. حتى إذا انتهى قال في هدوء وثبات وسماحة:" أفرغت يا أبا الوليد ؟ ". فيقول: نعم. فيقول: صلى الله عليه وسلم ; " فاستمع مني " ولا يفاجئه بالقول حتى يقول: أفعل. وعندئذ يتلو ﷺ في ثقة وفي طمأنينة وفي امتلاء روح قول ربه لا قوله: بسم الله الرحمن الرحيم. حم.....
إنها صورة تلقي في القلب المهابة. والثقة. والمودة. والاطمئنان.. ومن ثم كان يملك قلوب سامعيه.. الذين قد يقصدون إليه أول الأمر ساخرين أو حانقين !
صلى الله عليه وسلم.. وصدق الله العظيم: (الله أعلم حيث يجعل رسالته)..
ونعود بعد هذه الوقفة القصيرة إلى النص القرآني الكريم: (فإن أعرضوا فقل: أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود...).. إنها جولة في مصارع الغابرين، بعد تلك الجولة في ملكوت السماوات والأرض. جولة تهز القلوب المستكبرة برؤية مصارع المستكبرين: (إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله).. الكلمة الواحدة التي جاء بها الرسل أجمعين. وقام عليها بنيان كل دين. (قالوا: لو شاء ربنا لأنزل ملائكة. فإنا بما أرسلتم به كافرون).. وهي كذلك الشبهة المتكررة التي ووجه بها كل رسول. وما كان لرسول يخاطب البشر أن يكون إلا من البشر. يعرفهم ويعرفونه. ويجدون فيه قدوة واقعية، ويعاني هو ما يعانونه. ولكن عاداً وثمودا أعلنوا كفرهم برسلهم، لأنهم بشر لا ملائكة كما كانوا يقترحون !
وإلى هنا أجمل مصير عاد وثمود. وهو واحد. إذ انتهى هؤلاء وهؤلاء إلى الأخذ بالصاعقة. ثم فصل قصة كل منهما بعض التفصيل: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق. وقالوا: من أشد منا قوة ؟).. إن الحق أن يخضع العباد لله، وألا يستكبروا في الأرض، وهم من هم بالقياس إلى عظمة خلق الله. فكل استكبار في الأرض فهو بغير الحق. استكبروا واغتروا (وقالوا: من أشد منا قوة ؟).. وهو الشعور الكاذب الذي يحسه الطغاة. الشعور بأنه لم تعد هناك قوة تقف إلى قوتهم. وينسون: أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ؟.
إنها بديهة أولية.. إن الذي خلقهم من الأصل أشد منهم قوة. لأنه هو الذي مكن لهم في هذا القدر المحدود من القوة. ولكن الطغاة لا يذكرون: وكانوا بآياتنا يجحدون..
وبينما هم في هذا المشهد يعرضون عضلاتهم ! ويتباهون بقوتهم. إذا المشهد التالي في الآية التالية هو المصرع المناسب لهذا العجب المرذول: (فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات. لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا).. إنها العاصفة الهوجاء المجتاحة الباردة في أيام نحس عليهم. وإنه الخزي في الحياة الدنيا. الخزي اللائق بالمستكبرين المتباهين المختالين على العباد.. ذلك في الدنيا.. وليسوا بمتروكين في الآخرة: (ولعذاب الآخرة أخزى. وهم لا ينصرون).. (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى).. ويظهر أن هذه إشارة إلى اهتدائهم بعد آية الناقة، ثم ردتهم وكفرهم بعد ذلك. وإيثارهم العمى على الهدى. والضلال بعد الهدى عمى أشد العمى !
(فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون).. والهوان أنسب عاقبة. فليس هو العذاب فحسب، وليس هو الهلاك فحسب. ولكنه كذلك الهوان جزاء على العمى بعد الإيمان.
ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون..
وتنتهي الجولة على مصرع عاد وثمود. والإنذار بهذا المصرع المخيف المرهوب. ويتكشف لهم سلطان الله الذي لا ترده قوة ولا يعصم منه حصن، ولا يبقي على مستكبر مريد.
ــــــــــــ