وكما قلنا عند ما تفرق المسلمون في الأقطار، وكان أهل كل إقليم من الأقاليم يأخذون بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة، فأهل الشام يقرءون بقراءة أبي بن كعب، وأهل الكوفة يقرءون بقراءة عبد الله بن مسعود، وأهل البصرة عن أبي موسى الأشعري، فكان بينهم اختلاف في حروف الأداء ووجوه القراءة.
واستفحل الداء حتى كفّر بعضهم بعضا، أو كادت تكون فتنة في الأرض وفساد كبير حتى أن الرجل ليقول لصاحبه: إن قراءتي خير من قراءتك، ولم يقف هذا العمل عند حد، بل كاد يلفح بناره جميع البلاد الإسلامية حتى الحجاز، والمدينة، وأصاب الصغار والكبار على السواء «١».
أخرج ابن أبي داود في المصاحف من طريق أبي قلابة أنه قال: لما كانت خلافة عثمان، جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين، حتى كفر بعضهم بعضا، فبلغ ذلك عثمان فخطب فقال: (أنتم عندي تختلفون، فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافا) «٢».
وصدق عثمان رضي الله عنه، فقد كانت الأمصار النائية أشد اختلافا ونزاعا من المدينة والحجاز، وكان الذين يسمعون اختلاف القراءات من تلك الأمصار إذا جمعتهم المجامع أو التقوا على جهاد أعدائهم، يعجبون من ذلك، وكانوا يمعنون في التعجب والإنكار كلما سمعوا زيادة في اختلاف طرق أداء القرآن، وتيقظت الفتنة التي كادت تطيح فيها الرءوس، وتسفك فيها الدماء، وتقود المسلمين إلى مثل اختلاف اليهود والنصارى في كتبهم، كما ورد في الحديث الذي يرويه

(١) ينظر: المرشد الوجيز لأبي شامة المقدسي: ٥٤؛ مناهل العرفان: ١/ ٢٥٥.
(٢) ينظر: المصاحف: ١/ ٢١١ - ٢١٢؛ وأورده ابن حجر في فتح الباري عن ابن أبي داود، وقال: (فكأنه والله أعلم لما جاء حذيفة وأعلمه باختلاف أهل الأمصار، تحقق عنده ما ظنه من ذلك). فتح الباري: ٩/ ٢٢.


الصفحة التالية
Icon