متن، ص : ١٦٢
وفى هذا الكلام أيضا فائدة أخرى لطيفة. وهو أن قوله سبحانه : يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ. أبلغ من قوله : يا أرض اذهبي بمائك. لأن فى الابتلاع دليلا «١» على إذهاب الماء بسرعة. ألا ترى أن قولك لغيرك : ابلع هذا الطعام، أبلغ من قولك له :
كل هذا الطعام، إذا أردت منه إيصاله إلى جوفه بسرعة ؟ وكذلك الكلام فى قوله سبحانه :
وَيا سَماءُ أَقْلِعِي. لأن لفظ الإقلاع هاهنا أبلغ من لفظ الانجلاء. لأن فى الإقلاع أيضا معنى الإسراع بإزالة السحاب، كما قلنا فى الابتلاع. وذلك أدلّ على نفاذ القدرة، وطواعية الأمور، من غير وقفة ولا لبثة، هذا إلى ما فى المزاوجة بين اللفظين من البلاغة العجيبة، والفصاحة الشريفة. إذ يقول سبحانه : يا أرض ابلعي، ويا سماء أقلعى : ومثل هذا فى القرآن أكثر من أن يشار إليه.
[سورة هود (١١) : آية ٥٨]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨)
وقوله سبحانه : وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [٥٨]. وهذه استعارة. لأن العذاب فى الحقيقة لا يوصف بالغلظ والدقة، لأنه الألم الذي يلحق الحي فى قلبه أو جسمه.
وإنما وصفه تعالى بالغلظ على طريقة كلام العرب، لأنهم يصفون الأمر الهين بالضئولة والدقة، كما يصفون الأمر الشاق بالغلظ والشدة، حملا لذلك على عرفهم فى المراعاة للشىء الغليظ الكثيف، وقلة الحفل بالشيء الدقيق الضئيل. ألا ترى إلى قولهم : عرض فلان دقيق، وقدره ضئيل ؟ وإلى قولهم فى مقابلة ذلك : لقى فلان فلانا بكلام غليظ، وقول ثقيل.
وقد يجوز أيضا - واللّه أعلم - أن يكون المراد بعذاب غليظ هاهنا الصفة لعذاب الآخرة.
والعذاب إنما يقع بالآلات المستعظمة والأعيان «٢» المستفظعة، مثل مقامع الحديد، والحجارة

(١) فى الأصل «دليل» بالرفع وهو تحريف من الناسخ، لأنه اسم أن مؤخرا فهو واجب النصب.
(٢) فى الأصل «كالأعيان». ولا محل للتشبيه هنا بعد أن مثل بمقامع الحديد والحجارة المحماة بعد ذلك.


الصفحة التالية
Icon