متن، ص : ١٨٢
وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك أن الكفار كانوا إذا بدأ عليهم الرسل بالكلام سدّوا بأيديهم أسماعهم دفعة، وأفواههم دفعة، إظهارا منهم لقلة الرغبة فى سماع كلامهم وجواب مقالهم، ليدلّوهم - بهذا الفعل - على أنهم لا يصغون لهم إلى مقال، ولا يجيبونهم عن سؤال، إذ قد أبهموا طريقى السماع والجواب، وهما الآذان والأفواه. وشاهد ذلك قوله سبحانه حاكيا عن نوح عليه السلام يعنى قومه : وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ، وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً «١» فيكون معنى رد أيديهم فى أفواههم على القول الذي قلنا أن يمسكوا أفواههم بأكفهم، كما يفعل المظهر الامتناع من الكلام. ويكون إنما ذكر تعالى ردّ الأيدى هاهنا - وهو يفيد فعل الشيء ثانيا بعد أن فعل أولا - لأنهم كانوا يكثرون هذا الفعل عند كلام الرسل عليهم السلام.
فوصفوا فى هذه الآية بما قد سبق لهم مثله، وألف منهم فعله، فحسن ذكر الأيدى بالرد على الوجه الذي أومأنا إليه. وأيضا فقد يقول القائل لغيره : اردد إليك يدك. بمعنى اقبضها وكفها. لا يريد غير ذلك.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ١٤]
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤)
وقوله سبحانه : ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ [١٤]. وهذه استعارة.
لأن المقام لا يضاف إلّا إلى من يجوز عليه القيام. وذلك مستحيل على اللّه سبحانه، فإذن المراد به يوم القيامة، لأن الناس يقومون فيه للحساب، وعرض الأعمال على الثواب والعقاب، فقال سبحانه فى صفة ذلك اليوم : يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «٢».
وإنما أضاف تعالى هذا المقام إلى نفسه فى هذا الموضع، وفى قوله :

(١) سورة نوح عليه السلام. الآية رقم ٧.
(٢) سورة المطففين. الآية رقم ٦.


الصفحة التالية
Icon