وأنت فهل تبينت ها هنا الجواب وهديت إلى السر الذي فطنت له العرب ولم يفطن له المستعربون إن أول شيء أحسته تلك الأذن العربية في نظم القرآن هو ذلك النظام الصوتي البديع الذي قسمت فيه الحركة والسكون تقسيما منوعا يجدد نشاط السامع لسماعه ووزعت في تضاعيفه حروف المد والغنة توزيعا بالقسط يساعد على ترجيح فيجد عندها راحته العظمى وهذا النحو من التنظيم الصوتي إن كانت العرب قد عمدت إلى شيء منه في أشعارها فذهبت فيها إلى حد الإسراف في الاستهواء ثم إلى حد الإملال في التكرير فإنها ما كانت تعهده قط ولا كان يتهيأ لها بتلك السهولة في منثور كلامها سواء منه المرسل والمسجوع بل كان يقع لها في أجود نثرها عيوب تغض من سلاسة تركيبه ولا يمكن معها إجادة ترتيله إلا بإدخال شيء عليه أو حذف شيء منه لا عجب إذا أن يكون أدنى الألقاب إلى القرآن في خيال العرب أنه شعر لأنها وجدت في توقيعه هزة لا تجد شيئا منها إلا في الشعر ولا عجب أن ترجع إلى أنفسها فتقول ما هو بشعر لأنه كما قال الوليد ليس على أعاريض الشعر في رجزه ولا في قصيده ثم لا عجب أن تجعل مرد هذه الحيرة أخيرا إلى أنه ضرب من السحر لأنه جمع بين طرفي الإطلاق والتقييد في حد وسط فكان له من النثر جلاله وروعته ومن الشعر جماله ومتعته فإذا ما اقتربت بأذنك قليلا قليلا فطرقت سمعك جواهر حروفه خارجة من مخارجها الصحيحة فاجأتك منه لذة أخرى في نظم تلك الحروف ورصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها هذا ينقر وذاك يصفر وثالث يهمس ورابع يجهر وآخر ينزلق عليه النفس وآخر يحتبس عنده