وأما النبوءات الغيبية فهل تعرف كيف يحكم فيها ذو العقل الكامل ؟ إنه يتخذ من تجاربه الماضية مصباحاً يكتشف على ضوئه بضع خطوات من مجرى الحوادث المقبلة، جاعلاً الشاهد من هذه مقياساً للغائب من تلك ثم يصدر فيها حكمه محاطاً بكل تحفظ وحذر، قائلا :( ( ذلك ما تقضي به طبيعة الحوادث لو سارت الأمور على طبيعتها ولم يقع ما ليس في الحسبان ) ). أما أن يبت الحكم بتاً ويحدده تحديداً حتى فيما لا تدل عليه مقدمة من المقدمات العلمية، ولا تلوح منه أ مارة من الأمارات الظنية العادية، فذلك ما لا يفعله إلا أحد رجلين : إما رجل مجازف لا يبالي أن يقول ألناس فيه صدق أو كذب، وذلك هو دأب جهلاء المتنبئين من العرافين والمنجمين، وإما رجل اتخذ عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده، وتلك هي سنة الأنبياء والمرسلين، ولا ثالث لهما إلا رجلاً روى أخباره عن واحد منهما. فأي الرجلين تراه في صاحب هذا القرآن حينما يجيء على لسانه الخبر الجازم بما سيقع بعد عام وما سيقع في أعوام، وما سيكون أبد الدهر، وما لن يكون أبد الدهر ؟ ذلك وهو لم يتعاط علم المعرفة والتنجيم ولا كانت أخلاقه كأخلاقهم تمثل الدعوى والتفحم، ولا كانت أخباره كأخبارهم خليطاً من الصدق والكذب، والصواب والخطأ. بل كان مع براءته من علم الغيب وقعوده عن طلبه وتكلفه، يجيئه عفوا ما تعجز صروف الدهر وتقلباته في الأحقاب المتطاولة ان تنقض حرفا واحدا مما ينبئ به ( وانه لكتاب عزيز لا ياتيه الباطل من يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) سورة فصلت.
ولنسرد لك ها هنا بعض النبوءات القرآنية مع بيان شيء من ملا بساتها التاريخية، لترى هل كانت مقدماتها القريبة او البعيدة حاضرة فتكون تلك النبوءات من جنس ما توحي به الفراسة والألمعية ؟ وسنحصر الكلام


الصفحة التالية
Icon