المجيء بمثل كلامه كله لم يكن ليحول بينهم وبين قطعة واحدة منه ولئن أعجزهم هذا القدر اليسير أن يحتذوه على التمام لم يكن ليعجزهم أن ينزلوا منه بمكان قريب ألا وإننا قد أرخينا لهم العنان في معارضة القرآن بهذا أو ذاك وأغمضنا لهم فيها يجيئوننا أن يكون كلا أو بعضا وكثيرا أو يسيرا ومماثلا أو قريبا من المماثل فكان عجزهم عن ذلك كله سواء وأما إن قيل إن التفاوت بينه عليه السلام وبين سائر البلغاء كان إلى حد انقطاع صلتهم به جملة لاختصاصه من بين العرب ومن بين الناس بفطرة شاذة لا تنتسب إلى سائر الفطر في قليل ولا كثير إلا كما تنتسب القدرة إلى العجز أو الإمكان إلى الاستحالة فلا شك أن القول بذلك هو أخو القول بأن من الإنسان ما ليس بإنسان أو هو التسليم بأن ما يجيء به هذا الإنسان لا يكون من عمل الإنسان ذلك أن الطبيعة الإنسانية العامة واحدة والطبائع الشخصية تقع فيها الأشباه والأمثال في الشيء بعد الشيء وفي الواحد بعد الواحد إن لم يكن ذلك في كل عصر ففي عصور متطاولة وإن لم يكن في كل فنون الكلام ففي بعض فنونه وكائن رأينا من أناس كثيرة تتشابه قلوبهم وعقولهم وألسنتهم فتتوافق خواطرهم وعباراتهم حينا وتتقارب أحيانا حتى لقد يخيل إليك أن الروح الساري في القولين روح واحد وأن النفس هاهنا هو النفس هناك وكذلك رأينا من الأدباء المتأخرين من يكتب بأسلوب ابن المقفع وعبد الحميد ومن يكتب بأسلوب الهمذاني والخوارزمي وهلم جرا فلو كان أسلوب القرآن من عمل صاحبه الإنسان لكان خليقا أن يجيء بشيء من مثله من كان أشبه بهذا الإنسان مزاجا وأقرب إليه هديا وسمتا وألصق به رحما وأكثر عنه أخذا وتعلما أو لكان جديرا بأصحابه الذين نزل القرآن بين أظهرهم فقرأوه واستظهروه وتذوقوا معناه وتمثلوه وترسموا خطواته واغترفوا من مناهله أن يدون أسلوبهم شيئا من أسلوبه على ما تقضي به غزيزة التأسي وشيمة نقل الطباع من الطباع ولكن شيئا من