وقالت طائفة من أهل الكلام والحديث والفقهاء وغيرهم : بل هو حروف قديمة الأعيان لم تزل ولا تزال، وهي مترتبة في ذاتها لا في وجودها، كالحروف الموجودة في المصحف وليس بأصوات قديمة.
ومنهم من قال : بل هو ـ أيضًا ـ أصوات قديمة ولم يفرق هؤلاء بين الحروف المنطوقة التي لا توجد إلا متعاقبة، وبين الحروف المكتوبة التي توجد في آن واحد، كما يفرق بين الأصوات والمداد؛ فإن الأصوات لا تبقى بخلاف المداد، فإنه جسم يبقى، وإذا كان الصوت لا يبقى امتنع / أن يكون الصوت المعين قديمًا؛ لأن ما وجب قدمه لزم بقاؤه وامتنع عدمه، والحروف المكتوبة قد يراد بها نفس الشكل القائم بالمداد أو ما يقدر بقدر المداد، كالشكل المصنوع في حجر وورق، فإزالة بعض أجزائه تدل على حدوثه، وقد يراد بالحروف نفس المداد.
وأما الحروف المنطوقة، فقد يراد بها ـ أيضًا ـ الأصوات المقطعة المؤلفة، وقد يراد بها حدود الأصوات وأطرافها، كما يراد بالحرف في الجسم حده ومنتهاه، فيقال : حرف الرغيف وحرف الجبل ونحو ذلك، ومنه قوله تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ﴾ [ الحج : ١١ ]، وقد يراد بالحروف الحروف الخيالية الباطنة، وهي ما يتشكل في باطن الإنسان من الكلام المؤلف المنظوم قبل أن يتكلم به.
وقد تنازع الناس، هل يمكن وجود حروف بدون أصوات في الحي الناطق ؟ على قولين لهم، وعلى هذا تنازعت هذه الطائفة القائلة بقدم أعيان الحروف، هل تكون قديمة بدون أصوات قديمة أم لابد من أصوات قديمة لم تزل ولا تزال ؟
ثم القائلون بقدم الأصوات المعينة تنازعوا في المسموع من القارئ، هل يسمع منه الصوت القديم ؟ فقيل : المسموع هو الصوت القديم وقيل : بل المسموع هو صوتان : أحدهما : القديم، والآخر : المحدث، فما لابد منه في وجود القرآن فهو القديم، وما زاد على ذلك فهو المحدث.
وقيل : بل الصوت القديم غير المسموع من العبد.


الصفحة التالية
Icon