وحقيقة قول هؤلاء وجود الحوادث بلا محدث أصلا، أما على قول من جعل الأول علة غائية للحركة فظاهر، فإنه لا يلزم من ذلك أن يكون هو فاعلا لها، فقولهم في حركات الأفلاك نظير قول القدرية في حركة الحيوان، وكل من الطائفتين قد تناقض قولهم؛ فإن هؤلاء يقولون بأن فعل الحيوان صادر عن غيره؛ لكون القدرة والداعي مستلزمين وجود الفعل، والقدرة والداعي كلاهما من غير العبد.
فيقال لهم : فقولوا هكذا في حركة الفلك بقدرته وداعيه؛ فإنه يجب أن يكونا صادرين عن غيره، وحينئذ فيكون الواجب بنفسه هو المحدث لتلك الحوادث شيئًا بعد شيء، وإن كان ذلك بواسطة العقل، وهذا القول هو الذي يقوله ابن سينا وأتباعه، وهو باطل أيضًا؛ لأن الموجب بذاته القديم الذي يقارنه موجبه ومقتضاه يمتنع أن يصدر عنه /حادث بواسطة أو بلا واسطة، فإن صدور الحوادث عن العلة التامة الأزلية ممتنع لذاته.
وإذا قالوا : الحركة بتوسطه، أي بتوسط حركة الفلك، قيل لهم : فالكلام إنما هو في حدوث الحركة الفلكية؛ فإن الحركة الحادثة شيئًا بعد شيء يمتنع أن يكون المقتضى لها علة تامة أزلية، مستلزمة لمعلولها؛ فإن ذلك جمع بين النقيضين؛ إذ القول بمقارنة المعلول لعلته في الأزل ووجوده معها يناقض أن يتخلف المعلول أو شيء من المعلول عن الأزل، بل يمتنع أن يكون المقتضى لها ذاتا بسيطة لا يقوم بها شيء من الصفات والأحوال المقتضيةلحدوث الحوادث المتعاقبة المختلفة، بل يمتنع أن يكون المقتضي لها ذاتا موصوفة لا يقوم بها شيء من الأحوال الموجبة لحدوث الحوادث المذكورة، فإن التجدد والتعدد الموجود في المعلولات يمتنع صدوره عن علة واحدة بسيطة من كل وجه، فصار حقيقة قولهم أن الحوادث العلوية والسفلية لا محدث لها.


الصفحة التالية
Icon