وإذا قيل : إن حروف المعجم قديمة ـ بمعنى النوع ـ كان ذلك ممكنًا، بخلاف ما إذا قيل : إن عين اللفظ الذي نطق به زيد وعمرو قديم، / فإن هذا مكابرة للحس. والمتكلم يعلم أن حروف المعجم كانت موجودة قبل وجوده بنوعها. وأما نفس الصوت المعين الذي قام به التقطيع أو التأليف المعين لذلك الصوت، فيعلم أن عينه لم تكن موجودة قبله، والمنقول عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة مطابق لهذا القول؛ ولهذا أنكروا على من زعم أن حرفًا من حروف المعجم مخلوق، وأنكروا على من قال :[ لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف، فقالت : لا أسجد حتى أومر ]، مع أن هذه الحكاية نقلت لأحمد عن سري السقطى. وهو نقلها عن بكر بن خُنَيْس العابد، ولم يكن قصد أولئك الشيوخ بها إلا بيان أن العبد الذي يتوقف فعله على الأمر والشرع هو أكمل من العبد الذي يعبد الله بغير شرع، فإن كثيرا من العباد يعبدون الله بما تحبه قلوبهم، وإن لم يكونوا مأمورين به، فقصد أولئك الشيوخ أن من عبد الله بالأمر ولم يفعل شيئًا حتى يؤمر به، فهو أفضل ممن عبده بما لم يؤمر به، وذكروا هذه الحكاية الإسرائيلية شاهدًا لذلك، مع أن هذه لا إسناد لها، ولا يثبت بها حكم، ولكن الإسرائيليات إذا ذكرت على طريق الاستشهاد بها لما عرف صحته لم يكن بذكرها بأس، وقصدوا بذلك الحروف المكتوبة؛ لأن الألف منتصبة وغيرها ليس كذلك، مع أن هذا أمر اصطلاحي، وخط غير العربي لا يماثل خط العربي، ولم يكن قصد أولئك الأشياخ أن نفس الحروف المنطوقة التي هي مباني أسماء الله الحسنى، وكتبه المنزلة، مخلوقة بائنة عن الله، / بل هذا شيء لعله لم يخطر بقلوبهم، والحروف المنطوقة لا يقال فيها : إنها منتصبة ولا ساجدة، فمن احتج بهذا من قولهم على أنهم يقولون : إن الله لم يتكلم بالقرآن العربي ولا بالتوراة العبرية، فقد قال عنهم ما لم يقولوه.


الصفحة التالية
Icon