وهؤلاء هم الذين دعوا من دعوه من الخلفاء إلى مقالتهم، حتى امتحن الناس في القرآن بالمحنة المشهورة في إمارة المأمون، والمعتصم والواثق، حتى رفع الله شأن من ثبت فيها من أئمة السنة؛ كالإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وموافقيه، وكشفها الله عن الناس في إمارة المتوكل وظهر في الأمة [ مقالة السلف ] : أن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، أي هو المتكلم به، لم يبتدأ من بعض المخلوقات ـ كما قالت الجهمية ـ بل هو منه نزل، كما قال تعالى :﴿ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [ الأحقاف : ٢ ]، وقال :﴿ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ﴾ [ الأنعام : ١١٤ ]، وقال :﴿ حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾
[ فصلت : ١، ٢ ] وقوله :﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [ النحل : ١٠٢ ].
ثم لما شاعت المحنة كثر اضطراب الناس وتنازعهم في ذلك، حتى صار أهل السنة والجماعة ـ المتفقون على أن كلام الله منزل غير مخلوق ـ يقول كل منهم قولا يخالف به صاحبه، وقد لا يشعر أحدهم بخلاف الأدلة، وصار أتباع الأئمة الأربعة ـ كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، مع كون الظاهر المشهور عندهم أن القرآن كلام الله غير مخلوق ـ بين كل طائفة منهم تنازع في تحقيق ذلك، كما سننبه على ذلك.
والقول الثالث : قول أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري ومن اتبعه؛ كالقلانسي وأبي الحسن الأشعري وغيرهم، أن كلام الله معنى قائم بذات الله، هو الأمر بكل مأمور أمر الله به، والخبر عن كل مخبر أخبر الله عنه، إن عبرعنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا.