ومن هاهنا نشأ نزاعهم، فالذين قالوا : إنه مخلوق، رأوا أن / الكلام لا يكون إلا بقدرة المتكلم ومشيئته، وإن كلامًا لازمًا لذات المتكلم لا يعقل؛ فإنه إن جعل معنى واحدًا كان مكابرة للعقل، وكذلك إن جعل أصواتًا أزلية، ثم ظنوا أن ما كان بقدرة الرب ومشيئته لا يكون إلا منفصلا عنه، وما انفصل عنه فهو مخلوق، ولهذا أنكروا أن يجيء، أو يأتي، أو ينزل، وغير ذلك مما جاء به الكتاب والسنة.
وآخرون وافقوهم على هذا الأصل الذي أحدثه أولئك، وهو أنه لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته، لكن رأوا أن كلامًا لا يقوم بالمتكلم لا يكون كلامًا له، فقالوا : إن كلامه قائم به.
ثم رأى فريق أن قدم الأصوات ممتنع، فجعلوا القديم هو المعنى، ثم رأوا أن تعدد المعانى القديمة ممتنع، وأنه يفضي إلى وجود معاني لا نهاية لها، فقالوا : هو معنى واحد.
ورأى فريق آخر أن كون المعاني المتنوعة معنى واحدًا ممتنع، وكون الرب لم يتكلم بحروف القرآن، بل خلقها في غيره موافقة لمن جعل الكلام لا يقوم بالمتكلم؛ فإن تلك الحروف المنظومة ـ كالقرآن العربي ـ إن قالوا : هو كلام الله لزم ألا يكون كلامه قائمًا به بل بغيره، وإن قالوا : ليس كلامًا للّه لزم أن يكون كلامًا لمن خلقت فيه، فلا يكون الكلام العربي كلامًا لله، بل كلاماً لمن خلق فيه. وهذا / هو الذي أنكروه على من قال : القرآن مخلوق. والذي قال إنه مخلوق، لم يقل إلا هذا، فلزمهم أن يوافقوا في الحقيقة قول من يقول : القرآن مخلوق، وإن ضموا إلى ذلك قولاً لا حقيقة له يخالف العقل والنقل، وهو إثبات معنى واحد يكون هو جميع معاني التوراة، والإنجيل، والقرآن، لكنهم إنما قالوا ذلك فرارًا من أقوال ظنوها باطلة، فلم يقصدوا إلا الفرار عما رأوه باطلا، فوقعوا في أقوال لها لوازم تقتضي بطلانها ـ أيضًا.