فصل


إذا تبين هذا الأصل، ظهر به اشتقاق البدع من الكفر، فنقول : كما أن الذين أثنى الله عليهم من الذين هادوا والنصارى كانوا مسلمين مؤمنين، لم يبدلوا ما أنزل الله، ولا كفروا بشيء مما أنزل الله، وكان اليهود والنصارى صاروا كفارًا من جهة تبديلهم لما أنزل الله، ومن جهة كفرهم بما أنزل على محمد، فكذلك الصابئة صاروا كفارًا من جهة تبديلهم لما أنزل الله، ومن جهة كفرهم بما أنزل الله على محمد، وإن كانوا منافقين كما قد ينافق اليهودي والنصراني. و هؤلاء هم المستأخرون من اليهود والنصارى والصابئين.
وذلك أن متأخري الصابئين لم يؤمنوا أن لله كلامًا أو يتكلم، ويقول، أو أنه ينزل من عنده كلامًا وذكرا على أحد من البشر، أو أنه يكلم أحدًا من البشر، بل عندهم لا يوصف الله بصفة ثبوتية، لا يقولون : إن له علمًا، ولا محبة ولا رحمة، وينكرون أن يكون /الله اتخذ إبراهيم خليلًا، أو كلم موسى تكليمًا، وإنما يوصف عندهم بالسَّلْبِ والنَّفْي، مثل قولهم : ليس بجسم، ولا جوهر، ولا عرض، ولا داخل العالم ولا خارجه، أو بإضافة، مثل كونه مبدأ للعالم أو العلة الأولى، أو بصفة مركبة من السلب والإضافة؛ مثل كونه عاقلا ومعقولا وعقلا.
وعندهم أن الله لا يخص موسى بالتكليم دون غيره، ولا يخص محمدًا بإرسال دون غيره، فإنهم لا يثبتون له علمًا مفصلا للمعلومات، فضلا عن إرادة تفصيلية، بل يثبتون ـ إذا أثبتوا ـ له علمًا جمليًا كليًا، وغاية جملية كلية، ومن أثبت النبوة منهم قال : إنها فيض تفيض على نفس النبي من جنس ما يفيض على سائر النفوس، لكن استعداد النبي ﷺ أكمل، بحيث يعلم ما لا يعلمه غيره، ويسمع ما لا يسمع غيره، ويبصر ما لا يبصر غيره، وتقدر نفسه على ما لا تقدر عليه نفس غيره.


الصفحة التالية
Icon