وهذا لأن الكلام إنما يقصد به لفظه ومعناه، ولفظه هوالحروف المقروءة المنظومة. وإن كانت الحروف أصواتًا مقطعة، أو هي أطراف الأصوات المقطعة، فهي من الكلام باعتبار صورتها الخاصة من التقطيع والتأليف، لا باعتبار المادة الصوتية التي يشترك فيها جميع الصائتين، ولهذا ما كان في الكلام من بلاغة وبيان، وحسن تأليف ونظم، وكمال معان وغير ذلك، فهو للمتكلم بلفظه ومعناه، ليس هو لمجرد صفات الذي بلغه وأداه.
وأما قول القائل : من قال : إن مذهب جهم بن صفوان هو مذهب الأشعري أو قريب أو سواء معه، فهو جاهل بمذهب الفريقين؛ إذ الجهمية / قائلون بخلق القرآن، وبخلق جميع....
والأشعري يقول بقدم القرآن، وأن كلام الإنسان مخلوق للرحمن، فوضح للبيب كل من المذاهب الثلاثة.
فيقال : لا ريب أن قول ابن كُلاَّب والأشعري ـ ونحوهما من المثبتة للصفات ـ ليس هو قول الجهمية، بل ولا المعتزلة، بل هؤلاء لهم مصنفات في الرد على الجهمية والمعتزلة، وبيان تضليل من نفاها، بل هم تارة يكفرون الجهمية والمعتزلة، وتارة يضللونهم، لا سيما والجهم هو أعظم الناس نفيا للصفات، بل وللأسماء الحسنى. قوله من جنس قول الباطنية القرامطة، حتى ذكروا عنه أنه لا يسمى الله شيئًا، ولا غير ذلك من الأسماء التي يسمى بها المخلوق؛ لأن ذلك ـ بزعمه ـ من التشبيه الممتنع، وهذا قول القرامطة الباطنية.
وحكى عنه أنه لا يسميه إلا [ قادرًا فاعلا ] ؛ لأن العبد عنده ليس بقادر ولا فاعل؛ إذ كان هو رأس المجبرة، وقوله في الإيمان شر من قول المرجئة؛ فإنه لا يجعل الإيمان إلا مجرد تصديق القلب. وابن كلاب ـ إمام الأشعرية ـ أكثر مخالفة لجهم، وأقرب إلى السلف / من الأشعري نفسه، والأشعري أقرب إلى السلف من القاضي أبي بكر الباقلاني. والقاضي أبو بكر وأمثاله أقرب إلى السلف من أبي المعالي وأتباعه؛ فإن هؤلاء نفوا الصفات؛ كالاستواء، والوجه، واليدين.


الصفحة التالية
Icon