وقول جهم هو النفي المحض لصفات الله ـ تعالى ـ وهو حقيقة قول القرامطة الباطنية، ومنحرفي المتفلسفة؛ كالفارابي وابن سينا. وأما مقتصدة الفلاسفة كأبي البركات صاحب [ المعتبر ]، وابن رشد الحفيد ـ ففي قولهم من الإثبات ما هو خير من قول جهم؛ فإن المشهور عنهم إثبات الأسماء / الحسنى، وإثبات أحكام الصفات، ففي الجملة قولهم خير من قول جهم، وقول ضرار بن عمرو الكوفي خير من قولهم.
وأما ابن كلاب والقلانسي والأشعري فليسوا من هذا الباب، بل هؤلاء معروفون بالصفاتية، مشهورون بمذهب الإثبات؛ لكن في أقوالهم شيء من أصول الجهمية، وما يقول الناس : إنه يلزمهم بسببه التناقض، وأنهم جمعوا بين الضدين، وأنهم قالوا ما لا يعقل، ويجعلونهم مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فهذا وجه من يجعل فى قولهم شيئًا من أقوال الجهمية، كما أن الأئمة ـ كأحمد وغيره ـ كانوا يقولون : افترقت الجهمية على ثلاث فرق : فرقة يقولون : القرآن مخلوق. وفرقة تقف ولا تقول : مخلوق ولا غير مخلوق. وفرقة تقول : ألفاظنا بالقرآن مخلوقة.
ومن المعلوم أنهم إنما أرادوا بذلك افتراقهم في [ مسألة القرآن ] خاصة، وإلا فكثير من هؤلاء يثبت الصفات والرؤية، والاستواء على العرش. وجعلوه من الجهمية في بعض المسائل؛ أي أنه وافق الجهمية، فيها ليتبين ضعف قوله، لا أنه مثل الجهمية ولا أن حكمه حكمهم؛ فإن هذا لا يقوله من يعرف ما يقول.
ولهذا عامة كلام أحمد إنما هو يجهم اللفظية، لا يكاد يطلق القول بتكفيرهم كما يطلقه بتكفير المخلوقية، وقد نسب إلى هذا القول غير واحد من المعروفين بالسنة والحديث؛ كالحسين الكرابيسي، ونعيم / بن حماد الخزاعي، والبويطي، والحارث المحاسبي، ومن الناس من نسب إليه البخاري.


الصفحة التالية
Icon