وبالجملة، فإذا كان القول بحدوث العالم مستلزمًا لإثبات الصفات وقيام الأفعال بالله، كان ما ذكرناه من دليل حدوثه دليلا على أن العالم محدث، وأن محدثه موصوف بالصفات القائمة به، فاعل الأفعال الاختيارية القائمة به، كما دلت على ذلك النصوص الإلهية المتواترة عن الأنبياء من القرآن والتوراة، والإنجيل، وذلك ما بين موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح، والقضايا العقلية التي هي أصول فطر العقلاء، ومنتهى عقلهم توافق ذلك، واعتبر ذلك بما ذكره أبو عبد الله بن الخطيب الرازي، في كتابه [ الأربعين ] في ضبط المقدمات التي يمكن الرجوع إليها في إثبات المطالب العقلية.
قال : واعلم أن هاهنا مقدمتين، يفرع المتكلمون والفلاسفة أكثر مباحثهم عليهما.
المقدمة الأولى : مقدمة الكمال والنقصان، كقولهم : هذه الصفة من صفات الكمال فيجب إثباتها لله، وهذه الصفة من صفات النقصان فيجب نفيها عن الله، وأكثر مذاهب المتكلمين مفرعة على هذه المقدمة.
إلى أن قال :
أما المقدمة الثانية : وهي مقدمة الوجوب، والإمكان، وهذه /المقدمة في غاية الشرف والعلو، وهي غاية عقول العقلاء. قالوا : الوجود إما واجب وإما ممكن، والممكن لابد له من واجب، وكذلك الواجب لابد أن يكون واجبًا في ذاته وصفاته؛ إذ لو كان ممكنًا لافتقر إلى مؤثر آخر.
[ أما المقدمة الأولى ] وهي أنه واجب لذاته، فهذا له لازمان؛ الأول : أن يكون منزهًا عن الكثرة في حقيقته، ثم يلزم في ذاته أمور :
أحدها : ألا يكون متحيزًا؛ لأن كل متحيز منقسم، والمنقسم لا يكون فردًا، وإذا لم يكن متحيزًا لم يكن في جهة.


الصفحة التالية
Icon