وجعل ثبوت القرآن في الصدور والألسنة والمصاحف مثل ثبوت ذات الله ـ تعالى ـ في هذه المواضع، فهذا ـ أيضًا ـ مخطئ في ذلك، فإن الفرق بين ثبوت الأعيان في المصحف، وبين ثبوت الكلام فيها بين واضح؛ فإن الموجودات لها أربع مراتب : مرتبة في الأعيان، ومرتبة في الأذهان، ومرتبة في اللسان، ومرتبة في البنان. فالعلم يطابق العين، واللفظ يطابق العلم، والخط يطابق اللفظ.
فإذا قيل : إن العين في كتاب الله كما في قوله :﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ﴾ [ القمر : ٥٢ ] فقد علم أن الذي في الزبر إنما هو الخط المطابق للفظ المطابق للعلم، فبين الأعيان وبين المصحف مرتبتان، وهي اللفظ والخط، وأما الكلام نفسه فليس بينه وبين المصحف مرتبة، بل نفس الكلام يجعل في الكتاب، وإن كان بين الحرف الملفوظ والحرف المكتوب فرق من وجه آخر، إلا إذا أريد أن الذي في المصحف هو ذكره والخبر عنه، مثل قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى ﴾ إلى قوله :﴿ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [ الشعراء : ١٩٢ـ ١٩٧ ].
فالذي في زبر الأولين ليس هو نفس القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذا القرآن لم ينزل على أحد قبله صلى الله عليه وسلم، ولكن في زبر الأولين ذكر القرآن وخبره، كما فيها ذكر محمد ﷺ وخبره، كما أن أفعال العباد في الزبر، كما قال تعالى :﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ﴾، فيجب الفرق بين كون هذه الأشياء في الزبر، وبين كون الكلام نفسه في الزبر، كما قال تعالى :﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ﴾ [ الواقعة : ٧٧، ٧٨ ]، وقال تعالى :﴿ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴾ [ البينة : ٢، ٣ ].


الصفحة التالية
Icon