وقال الإمام العلامة المحقق أبو العباس أحمد بن تيمية ـ رحمه الله تعالى ورضي عنه :
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد : فهذا [ فصل في نزول القرآن ] ولفظ [ النزول ] حيث ذكر في كتاب الله ـ تعالى ـ فإن كثيرًا من الناس فسروا النزول في مواضع من القرآن بغير ما هو معناه المعروف؛ لاشتباه المعنى في تلك المواضع، وصار ذلك حجة لمن فسر نزول القرآن بتفسير أهل البدع.
فمن الجهمية من يقول : أنزل بمعنى خلق، كقوله تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ﴾ [ الحديد : ٢٥ ]، أو يقول : خلقه في مكان عال ثم أنزله من ذلك المكان.
ومن الكُلابِيّة من يقول : نزوله بمعنى الإعلام به وإفهامه للملك، أو نزول الملك بما فهمه. وهذا الذي قالوه باطل في اللغة والشرع والعقل.
والمقصود هنا ذكر النزول، فنقول وبالله التوفيق :
النزول في كتاب الله ـ عز وجل ـ ثلاثة أنواع : نزول مقيد بأنه منه، ونزول مقيد بأنه من السماء، ونزول غير مقيد لا بهذا ولا بهذا.
فالأول لم يرد إلا في القرآن، كما قال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ﴾ [ الأنعام : ١١٤ ]، وقال تعالى :﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ﴾ [ النحل : ١٠٢ ]، وقال تعالى :﴿ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [ الجاثية : ٢، الأحقاف : ٢ ]، وفيها قولان :
أحدهما : لا حذف في الكلام، بل قوله :﴿ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ ﴾ مبتدأ، وخبره ﴿ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم ِ ﴾.
والثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا ﴿ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ ﴾، وعلى كلا القولين فقد ثبت أنه منزل منه، وكذلك قوله :﴿ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [ الجاثية : ١، ٢، الأحقاف : ١، ٢ ] وكذلك ﴿ حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [ فصلت : ١، ٢ ]، ﴿ حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [ غافر : ١، ٢ ] والتنزيل بمعنى المنزل، تسمية للمفعول باسم المصدر، وهو كثير؛ ولهذا قال السلف : القرآن كلام الله ليس بمخلوق، منه بدأ. قال أحمد وغيره : وإليه يعود، أي : والمتكلم به. وقال : كلام الله من الله ليس ببائن منه، أي لم يخلقه في غيره فيكون مبتدأ منزلا من ذلك المخلوق، بل هو منزل من الله، كما أخبر به، ومن الله بدأ لا من مخلوق، فهو الذي تكلم به لخلقه.