وأما [ أفعال العباد ] فرأيت بعض المتأخرين يزعم أنها قديمة خيرها وشرها، وفسر ذلك بأن الشرع قديم والقدر قديم، وهي مشروعة مقدرة، ولم يفرق بين الشرع الذي هو كلام الله والمشروع الذي هو المأمور به والمنهي عنه، ولم يفرق بين القدر الذي هو علم الله وكلامه وبين المقدور الذي هو مخلوقاته. والعقلاء كلهم يعلمون بالاضطرار أن الأمر والخبر نوعان للكلام، لفظه ومعناه، ليس الأمر والخبر صفات لموصوف واحد ـ فمن جعل الأمر والنهي والخبر صفات للكلام لا أنواعًا له فقد خالف ضرورة العقل، وهؤلاء في هذا بمنزلة من زعم أن الوجود واحد؛ إذ لم يفرق بين الواحد بالنوع والواحد بالعين؛ فإن انقسام [ الموجود ] إلى القديم والمحدث، والواجب والممكن، والخالق والمخلوق، والقائم بنفسه والقائم بغيره، كانقسام [ الكلام ] إلى الأمر والخبر، أو إلى الإنشاء والإخبار، أو إلى الأمر والنهي والخبر ـ فمن قال : الكلام معنى واحد هو الأمر والخبر، فهو كمن قال : الوجود واحد هو الخالق والمخلوق، أو الواجب والممكن. وكما أن حقيقة هذا تؤول إلى تعطيل الخالق فحقيقة /هذا تؤول إلى تعطيل كلامه وتكليمه.
وهذا حقيقة قول فرعون الذي أنكر الخالق وتكليمه لموسى؛ ولهذا آل الأمر بمحقق هؤلاء إلى تعظيم فرعون، وتوليه وتصديقه في قوله :﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [ النازعات : ٢٤ ] بل إلى تعظيمه على موسى وإلى الاستحقار بتكليم الله لموسى، كما قد بسط في غير هذا الموضع.


الصفحة التالية
Icon