والشبهة تنشأ في مثل هذا من جهة : أن بعض الناس لا يفرق بين المطلق من الكلام والمقيد. مثال ذلك : أن الإنسان يقول : رأيت الشمس والقمر والهلال، إذا رآه بغير واسطة، وهذه [ الرؤية المطلقة ]. وقد يراه في ماء أو مرآة، فهذه [ رؤية مقيدة ]، فإذا أطلق قوله : رأيته، أو ما رأيته، حمل على مفهوم اللفظ المطلق، وإذا قال : لقد رأيت الشمس في الماء والمرآة، فهو كلام صحيح مع التقييد، واللفظ يختلف معناه بالإطلاق /والتقييد، فإذا وصل بالكلام ما يغير معناه كالشرط والاستثناء ونحوهما من التخصيصات المتصلة كقوله :﴿ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ﴾ [ العنكبوت : ١٤ ] كان هذا المجموع دالا على تسعمائة وخمسين سنة بطريق الحقيقة عند جماهير الناس.
ومن قال : إن هذا مجاز فقد غلط؛ فإن هذا المجموع لم يستعمل في غير موضعه وما يقترن باللفظ من القرائن اللفظية الموضوعة هي من تمام الكلام؛ ولهذا لا يحتمل الكلام معها معنيين، ولا يجوز نفي مفهومهما، بخلاف استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع، مع أن قول القائل : هذا اللفظ حقيقة، وهذا مجاز، نزاع لفظي، وهو مستند من أنكر المجاز في اللغة أو في القرآن، ولم ينطق بهذا أحد من السلف والأئمة، ولم يعرف لفظ المجاز في كلام أحد من الأئمة إلا في كلام الإمام أحمد، فإنه قال فيما كتبه من [ الرد على الزنادقة والجهمية ] هذا من مجاز القرآن. وأول من قال ذلك مطلقًا أبو عبيدة معمر بن المثني في كتابه الذي صنفه في [ مجاز القرآن ]، ثم إن هذا كان معناه عند الأولين مما يَجُوز في اللغة ويَسُوغ، فهو مشتق عندهم من الجواز كما يقول الفقهاء : عقد لازم وجائز، وكثير من المتأخرين جعله من الجواز الذي هو العبور من معنى الحقيقة إلى معنى المجاز، ثم إنه لا ريب أن المجاز قد يشيع ويشتهر حتى يصير حقيقة.