ولو ترك الناس على فطرتهم لكانت صحيحة سليمة، فإذا رأى الناس كلامًا صحيحًا، فإن من تكلم بكلام وسمع منه ونقل عنه أو كتبه في كتاب لا يقول عاقل : إن نفس ما قام بالمتكلم من المعاني التي في قلبه والألفاظ القائمة بلسانه فارقته، وانتقلت عنه إلى المستمع والمبلغ عنه، ولا فارقته وحلت في الورق، بل ولا يقول : إن نفس ما قام به من المعاني والألفاظ هو نفس المداد الذي في الورق، بل ولا يقول : إن نفس ألفاظه التي هي أصواته هي أصوات المبلغ عنه، فهذه الأمور كلها ظاهرة، لا يقولها عاقل في كلام المخلوق إذا سمع وبلغ أو كتب في كتاب، فكيف يقال ذلك في كلام الله الذي سمع منه وبلغ عنه أو كتبه ـ سبحانه ـ كما كتب التوراة لموسى، وكما كتب القرآن في اللوح المحفوظ، وكما كتبه المسلمون في مصاحفهم.
وإذا كان من سمع كلام مخلوق فبلغه عنه بلفظه ومعناه، بل شعر مخلوق، كما يبلغ شعر حسان وابن رواحة ولبيد وأمثالهم من الشعراء، ويقول الناس : هذا شعرحسان بعينه، وهذا هو نفس شعر حسان، وهذا شعر لبيد بعينه كقوله :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل**
ومع هذا فيعلم كل عاقل أن رواة الشعر ومنشديه لم يسلبوا الشعراء نفس صفاتهم حتى حلت بهم، بل ولا نفس ما قام بأولئك من صفاتهم وأفعالهم كأصواتهم وحركاتهم حلت بالرواة والمنشدين، فكيف يتوهم متوهم أن صفات الباري كلامه أو غير كلامه فارق ذاته وحل في مخلوقاته، وأن ما قام بالمخلوق من صفاته وأفعاله كحركاته وأصواته هي صفات الباري حلت فيه ؟ ! وهم لا يقولون مثل ذلك في المخلوق بل يمثلون العلم بنور السراج يقتبس منه المتعلم ولا ينقص ما عند العالم، كما يقتبس المقتبس ضوء السراج فيحدث الله له ضوءًا )، كما يقال : إن الهوى ينقلب نارًا بمجاورة الفتيلة للمصباح من غير أن تتغير تلك النار التي في المصباح، والمقرئ والمعلم يقرئ القرآن ويعلم العلم ولم ينقص مما عنده شيء، بل يصير عند المتعلم مثل ما عنده.