فإن الجهمية ليس فيهم من ينكر أن يقال : القرآن في الصدور، ولا يشبه هذا بقول النصارى بالحلول إلا من هو في غاية الضلالة والجهالة؛ فإن النصارى يقولون : الأب والابن وروح القدس إله واحد، وأن الكلمة التي هي اللاهوت تدرعت [ أي : دخلت في الناسوت ]. الناسوت، وهو عندهم إله يخلق ويرزق؛ ولهذا كانوا يقولون : إن الله هو المسيح ابن مريم، ويقولون : المسيح ابن الله؛ ولهذا كانوا متناقضين، فإن الذي تدرع المسيح إن كان هو الإله الجامع للأقانيم فهو الأب نفسه، وإن كان هو صفة من /صفاته فالصفة لا تخلق ولا ترزق وليست إلها، والمسيح عندهم إله، ولو قال النصارى : إن كلام الله في صدر المسيح كما هو في صدور سائر الأنبياء والمؤمنين لم يكن في قولهم ما ينكر.
فالحلولية المشهورون بهذا الاسم من يقول بحلول الله في البشر، كما قالت النصارى والغالية من الرافضة وغلاة أتباع المشايخ، أو يقولون بحلوله في كل شيء كما قالت الجهمية أنه بذاته في كل مكان، وهو ـ سبحانه ـ ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وكذلك من قال باتحاده بالمسيح أو غيره، أو قال باتحاده بالمخلوقات كلها، أو قال : وجوده وجود المخلوقات أو نحو ذلك.
فأما قول القائل : إن كلام الله في قلوب أنبيائه وعباده المؤمنين، وإن الرسل بلغت كلام الله، والذي بلغته هو كلام الله، وإن الكلام في الصحيفة ونحو ذلك، فهذا لا يسمى حلولا، ومن سماه حلولا لم يكن بتسميته لذلك مبطلاً للحقائق. وقد تقدم أن ذلك لا يقتضي مفارقة صفة المخلوق له وانتقالها إلى غيره، فكيف صفة الخالق ـ تبارك وتعالى ـ ؟ !