فقال لهم جمهور العقلاء : هذا مما يعلم فساده بالاضطرار؛ فإن الصوت لا يتصور بقاؤه، ودعوى وجود ماهية غير الموجود في الخارج دعوى /فاسدة، كما قد بسط في موضع آخر، والترتيب الذي في المصحف هو ترتيب للحروف المدادية، والمداد أجسام، فهو كترتيب الدار والإنسان، وهذا أمر يوجد الجزء الأول منه مع الثاني، بخلاف الصوت فإنه لا يوجد الجزء الثاني منه حتى يعدم الأول كالحركة، فقياس هذا بهذا قياس باطل، ومن هؤلاء من يطلق لفظ القديم ولا يتصور معناه، ومنهم من يقول : يعني بالقديم أنه بدأ من الله، وأنه غير مخلوق، وهذا المعنى صحيح، لكن الذين نازعوا : هل هو قديم أو [ ليس بقديم ]، لم يعنوا هذا المعنى، فمن قال لهم : إنه قديم وأراد هذا المعنى، قد أراد معنًى صحيحًا، لكنه جاهل بمقاصد الناس، مضل لمن خاطبه بهذا الكلام، مبتدع في الشرع واللغة.
ثم كثير من هؤلاء يقولون : إن الحروف القديمة والأصوات ليست هي الأصوات المسموعة من القراء ولا المداد الذي في المصحف، ومنهم من يقول : بل الأصوات المسموعة من القراء هو الصوت القديم، ومنهم من يقول : بل يسمع من القارئ شيئان : الصوت القديم، وهو ما لابد منه في وجود الكلام، والصوت المحدث، وهو ما زاد على ذلك، وهؤلاء يقولون : المداد الذي في المصحف مخلوق، لكن الحروف القديمة ليست هي المداد، بل الأشكال والمقادير التي تظهر بالمداد، وقد تنقش في حجر، وقد تخرق في ورق، ومنهم من يمنع أن يقال في المداد : إنه قديم أو /مخلوق، وقد يقول : لا أمنع عن ذلك بل أعلم أنه مخلوق، لكن أسد باب الخوض في هذا، وهو مع هذا يهجر من يتكلم بالحق، ومن يبين الصواب الموافق للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، مع موافقته لصريح المعقول، ومع دفعه للشناعات التي يشنع بها بعضهم على بعض.


الصفحة التالية
Icon