فصل
فلما كان في الأمم كفار ومنافقون، يكفرون ببعض الرسالة دون بعض، إما في القدر وإما في الوصف، كما أن فيهم كفارًا ومنافقين يكفرون بأصل الرسالة، وكان في الكفار بأصل الرسالة من قال : إن الرسول شاعر، وساحر، وكاهن، ومعلم، ومجنون، ومفتري، كما كان رئيس قريش وفيلسوفها وحكيمها الوليد بن المغيرة الوحيد المذكور في قوله تعالى :﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾ [ المدثر : ١١ـ ٢٥ ].
فإنه صَنَع صُنْع الفيلسوف المخالف للرسل في تفكيره أولا؛ الذي هو طلب الانتقال من تصور طرفي القضية إلي المبادئ الموجبة للتصديق ليظفر بالحد الأوسط، ثم قدر ثانيًا، والتقدير هو [ القياس ] وهو الانتقال من المبادئ إلي المطلوب بالقياس المنطقي الشمولي؛ ولعمري/إنه لصواب إذا صحت مقدماته، وإن كانت النتيجة في الأغلب أمورًا كلية ذهنية، ثبوتها في الأذهان لا في الأعيان، كالعلوم الرياضية من الأعداد والمقادير؛ فإن العدد المجرد عن المعدود والمقدار المجرد عن الأجسام إنما يوجد في الذهن، لكن أنَّي وأكثر مقدماته في الإلهيات دعاوي يدعي فيها بعموم ؟ وأن القضية من المسلمات بلا حجة، ومتي لم يكن في القياس قضية كلية معلومة لم تفد المطلوب، وهم يلبسون المهملات التي هي في معني الجزئيات بالكليات العامة المسلمات، أو يدعي فيها العموم بنوع من قياس التمثيل.
ومعلوم أنه لابد في كل قياس من قضية كلية، وعامة القضايا الكلية التي لهم فيها المطالب الإلهية لا يعلم كونها كلية عامة؛ إذ عمومها لا يعلم إلا بمجرد قياس التمثيل الذي قد يكون من أفسد القياس المقتضي لتشبيه الله بخلقه، كما يقولون : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وليس معهم إلا تشبيه خالق السموات والأرض ورب العالمين بالطبائع، كطبيعة الماء والنار، مع أن الواحد الذي يثبتونه في الإلهيات، وفي المنطق ــ أيضًا ــ الذين يجعلون قضية الأنواع مركبة منه وهو [ الجنس ] و [ الفصل ] لا حقيقة لها، ولا توجد إلا في الأذهان لا في الأعيان، وقد بسطنا الكلام علي ذلك في مواضع.