فلما كان هذا منهاجهم، وقالوا : إن القرآن غير مخلوق لما دل على ذلك من النصوص وإجماع السلف، ولما رأوا أنه مستقيم على الأصل الذي قرروه في الصفات، ورأوا أن التوفيق بين النصوص النبوية السمعية، وبين القياس العقلي لا يستقيم إلا أن يجعلوا القرآن معنى قائمًا بنفس الله تعالى ــ كسائر الصفات، كما جعله الأولون من باب المصنوعات المخلوقات، لا قديمًا كسائر الصفات ــ ورأوا أنه ليس إلا مخلوق أو قديم، فإن إثبات قسم ثالث قائم بالله يقتضى حلول الحوادث بذاته، وهو دليل على حدوث الموصوف، ومبطل لدلالة حدوث العالم.
ثم رأوا أنه لا يجوز أن يكون معانى كثيرة، بل إما معنى واحد عند طائفة، أو معاني أربعة عند طائفة، والتزموا على هذا أن حقيقة الكلام هي المعنى القائم بالنفس، وأن الحروف والأصوات ليست من حقيقة الكلام، بل دالة عليه فتسمى باسمه؛ إما مجازا عند طائفة، أو حقيقة بطريق الاشتراك عند طائفة، وإما مجازا في كلام الله حقيقة في غيره عند طائفة.
وخالفهم الأولون وبعض من يتسنن أيضا، وقالوا : لا حقيقة للكلام إلا الحروف والأصوات، وليس وراء ذلك معنى إلا العلم ونوعه، أو الإرادة ونوعها، فصار النزاع بين الطائفتين.
وأورد على هؤلاء : أن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام إضافية ليست أنواعًا له وأقسامًا، وأن كلام الله معنى واحد؛ إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وبالعبرية فهو توراة، وبالسريانية فهو إنجيل، وقال لهم أكثر الناس : هذا معلوم الفساد بالضرورة، كما قال الأولون : إنه خلق الكلام في الهواء فصار متكلمًا به، وإن المتكلم من أحدث الكلام ولو في ذات غير ذاته؛ وقال لهم أكثر الناس : إن هذا معلوم الفساد بالضرورة.


الصفحة التالية
Icon