فاستقر أهل السنة وجماهير الأمة وأهل الجماعة وأعلام الملة ـ في شرقها وغربها ـ علي الإيمان الذي جاءت به الرسل عن الله، وجاء به خاتم النبيين مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه، وهو أن القرآن والتوراة والإنجيل كلام الله، وأن كلام الله لا يكون مخلوقًا منفصلا عنه، كما لا يكون كلام المتكلم منفصلا عنه؛ فإن هذا جحود لكلامه الذي / هو رسالته، ودفع لحقيقة ما أنبأت به الرسل وعلمته أممهم، وإلحاد في أسماء الله وآياته، وتمثيل له بالمعدوم والموات؛ فإن الحياة والعلم والقدرة والكلام ونحو ذلك صفات كمال، والرب ـ تعالى ـ أحق بكل كمال، فيمتنع أن يثبت للمخلوق كمال إلا والخالق أحق به، كما يمتنع أن يتنزه المخلوق عن نقص إلا والخالق أحق بتنزهه منه، كيف وهو خالق الكمال للكاملين.
وأيضًا، فمن لم يتصف بصفات الكمال؛ من الحياة والعلم والسمع والبصر والقدرة والكلام وغير ذلك، فإما أن يكون قابلا للاتصاف بذلك ولم يتصف به، أو غير قابل للاتصاف به. فإن قبله ولم يتصف به كان موصوفًا بصفات النقص؛ كالموت والجهل والعمى والصمم والعجز والبكم باتفاق العقلاء؛ فإنهم متفقون علي أن القابل لهذا ولهذا متي لم يتصف بأحدهما اتصف بالآخر. وإن قيل : إنه لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات كان أنقص من القابل الذي لم يتصف بها، فالحيوان الذي يكون تارة سميعًا وتارة أصم، وتارة بصيرا وتارة أعمي، وتارة متكلما وتارة أخرس، أكمل من الجماد الذي لا يقبل أن يكون لا هذا ولا هذا.
فمن لم يصفه بصفات الكمال لزمه إما أن يصفه بهذه النقائص، أو يكون أنقص ممن وصف بهذه النقائص؛ وذلك أن المتفلسفة / اصطلحوا علي تقسيم المتقابلين بالنفي والإثبات إلي النقيضين، وإلي ما يسمونه : العدم والملكة، فالعدم عندهم سلب الشيء عما من شأنه أن يكون متصفا به كالعمي والخرس؛ فإنه عدم البصر والكلام عما من شأنه أن يكون بصيرًا متكلمًا، فأما الجماد فلا يسمونه لا بهذا ولا بهذا.


الصفحة التالية
Icon