وشبهتهم لبست علي طائفة من أهل النظر، فظنوا أنه إذا لم يوصف بصفات الكمال من الحياة والعلم والسمع والبصر والكلام، لم يلزم أن يتصف بصفات النقص؛ لأنهما متقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل النقيضين.
فيقال لهم : هذا ـ أولا ـ اصطلاح لكم، وإلا فغيركم يسمي الجماد ميتًا ومواتًا ونحو ذلك، كما في مثل قوله :﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء ﴾ [ النحل : ٢٠، ٢١ ].
ويقال لهم ثانيًا : النظر في المعاني العقلية، ومعلوم أن عدم هذه الصفات يستلزم النقص الثابت بعدمها.
ويقال لهم ثالثًا : إذا قلتم لا يتصف بواحد منهما لكونه لا يقبل ذلك، فهذا النقص أعظم من نقص العمي والصمم والبكم ؛ فإن ما لا يقبل / الاتصاف بصفات الكمال أنقص ممن هو قابل لها يمكن اتصافه بها؛ فإنه منه بدأ؛ لا كما يقوله الصابئة ومن وافقهم من الجهمية : إنه ابتدأ من نفس النبي أو من [ العقل الفعال ] أو من [ الهواء ] بل هو تنزيل من حكيم حميد، وأنه إليه يعود إذا أسري به من المصاحف والصدور.
وصار الإمام أحمد علمًا لأهل السنة الجائين بعده من جميع الطوائف، كلهم يوافقه في جمل أقواله، وأصول مذاهبه؛ لأنه حفظ علي الأمة الإيمان الموروث، والأصول النبوية ـ ممن أراد أن يحرفها ويبدلها ـ ولم يشرع دينًا لم يأذن الله به، والذي قاله هو الذي يقوله سائر الأئمة الأعيان، حتي إن أعيان أقواله منصوصة عن أعيانهم، لكن جمع متفرقها، وجاهد مخالفها، وأظهر دلالة الكتاب والسنة عليها، ومقالاته ومقالات الأئمة قبله وبعده في الجهمية كثيرة مشهورة.