ومع هذا فكل واحدة من الطائفتين : الذين يقولون : لفظنا بالقرآن غير مخلوق، والذين يقولون : لفظنا وتلاوتنا مخلوقة ـ تنتحل أبا عبد الله وتحكى قولها عنه، وتزعم أنه كان على مقالتها؛ لأنه إمام مقبول عند الجميع؛ ولأن الحق الذي مع كل طائفة يقوله أحمد، والباطل الذي تنكره كل طائفة على الأخرى يرده أحمد، فمحمد بن داود المصِّيصي ـ أحد علماء الحديث وأحد شيوخ أبي داود ـ وجماعة في زمانه كأبي حاتم الرازي وغيره يقولون : لفظنا بالقرآن غير مخلوق، وتبعهم طائفة على ذلك، كأبي عبد الله بن حامد، وأبي نصر السجزي، وأبي عبد الله بن منده، وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري، وأبي العلاء الهمداني، وأبي الفرج المقدسي، وغير هؤلاء يقولون : إن ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة، و يروون ذلك عن أحمد، وأنه رجع إلى ذلك، كما ذكره أبو نصر في كتابه [ الإبانة ]، وهي روايات ضعيفة بأسانيد مجهولة لا تعارض ما تواتر عنه عند خواص أصحابه، وأهل بيته، والعلماء الثقات، لا سيما وقد علم أنه في حياته خطأ أبا طالب في النقل عنه، حتى رده أحمد عن ذلك، وغضب عليه غضبًا شديدًا.
وقد رأيت بعض هؤلاء طعن في تلك النقول الثابتة عنه. ومنهم من حرفها لفظًا، وأما تحريف معانيها فذهب إليه طوائف، فأما الذين ثبتوا النقل عنه ووافقوه على إنكاره الأمرين، وهم جمهور أهل السنة ومن انتسب إليهم من أهل الكلام كأبي الحسن الأشعري وأمثاله، فإنه ذكر في [ مقالات أهل السنة والحديث ] أنهم ينكرون على من قال : لفظي بالقرآن مخلوق، ومن قال : لفظي به غير مخلوق، وأنه يقول بذلك.
لكن من هؤلاء من تأول كلام أحمد وغيره في ذلك بأنه منع أن يقال : إن القرآن يلفظ به، وهذا قاله الأشعري وابن الباقلاني والقاضي أبو يعلى وأتباعه، كأبي الحسن بن الزاغوني وأمثاله.