وهذا منشأ نزاع الذين وافقوا السلف على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، فإن هؤلاء تنازعوا في أن الرب هل يتكلم بمشيئته وقدرته ؟ على قولين. فالذين وافقوا ابن كلاب قالوا : إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، بل كلامه لازم لذاته كحياته، ثم من هؤلاء من عرف أن الحروف والأصوات لا تكون قديمة العين فلم يمكنه أن يقول : القديم هو الحروف والأصوات؛ لأنها لا تكون إلا متعاقبة، والصوت لا يبقى زمانين، فضلا عن أن يكون قديمًا، فقال : القديم هو معنى واحد، لامتناع معاني لا نهاية لها، وامتناع التخصيص بعدد دون عدد. فقالوا : هو معنى واحد، وقالوا : إن الله لا يتكلم بالكلام العربي والعبري، وقالوا : إن معنى التوراة والإنجيل والقرآن وسائر كلام الله معنى واحد، /ومعنى آية الكرسي وآية الدَّيْن معنى و احد. إلى غير ذلك من اللوازم التي يقول جمهور العقلاء : إنها معلومة الفساد بضرورة العقل. ومن هؤلاء من عرف أن الله تكلم بالقرآن العربي والتوراة العبرية، وأنه نادى موسى بصوت وينادي عباده بصوت، وأن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه؛ لكن اعتقدوا مع ذلك أنه قديم العين، وأن الله لم يتكلم بمشيئته وقدرته. فالتزموا أنه حروف وأصوات قديمة الأعيان لم تزل ولا تزال، وقالوا : إن الباء لم تسبق السين، والسين لم تسبق الميم، وإن جميع الحروف مقترنة بعضها ببعض اقترانًا قديمًا أزليًا لم يزل ولا يزال، وقالوا : هي مترتبة في حقيقتها وماهيتها غير مترتبة في وجودها. وقال كثير منهم : إنها مع ذلك شيء واحد، إلى غيرذلك من اللوازم التي يقول جمهور العقلاء : إنها معلومة الفساد بضرورة العقل.


الصفحة التالية
Icon