وذلك أن كل شيء فله أربع مراتب في الوجود : وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان : وجود عيني، وعلمي، و لفظي، ورسمي؛ ولهذا كان أول ما أنزل الله من القرآن :﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [ العلق : ١ ]، وذكر فيها أنه ـ سبحانه ـ معطي الوجودين فقال :﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾ [ العلق : ١، ٢ ]،
فهذا الوجود العيني، ثم قال :﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [ العلق : ٣ ـ ٥ ]، فذكر أنه أعطي الوجود العلمي الذهني، وذكر التعليم بالقلم؛ لأنه مستلزم لتعليم اللفظ والعبارة، وتعليم اللفظ والعبارة مستلزم لتعليم المعنى، فدل بذكره آخر المراتب على أولها؛ لأنه لو ذكر أولها أو أطلق التعليم لم يدل ذلك على العموم والاستغراق.
وإذا كان كذلك فالقرآن كلام، والكلام له المرتبة الثالثة، ليس بينه وبين الورق مرتبة أخرى متوسطة، بل نفس الكلام يثبت في الكتاب، كما قال الله تعالى :﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ﴾ [ الواقعة : ٧٧، ٧٨ ]، وقال تعالى :﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾ [ البروج : ٢١، ٢٢ ] وقال :
﴿ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴾ [ البينة : ٢، ٣ ] وقال :﴿ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ. مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ ﴾ [ عبس : ١١ـ ١٤ ].
وقال :﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ ﴾ [ الأنعام : ٧ ].
وقد يقال : إنه مكتوب فيها، كما يطلق القول أنه فيها، كما قال تعالى :﴿ وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ ﴾ [ الطور : ١ـ ٣ ]، وأما الرب ـ سبحانه ـ