فصل


ومن تأمل نصوص الإمام أحمد في هذا الباب، وجدها من أسد الكلام وأتم البيان، ووجد كل طائفة منتسبة إلى السنة قد تمسكت منها بما تمسكت، ثم قد يخفي عليها من السنة في موضع آخر ما ظهر لبعضها فتنكره.
ومنشأ النزاع بين أهل الأرض، والاضطراب العظيم الذي لا يكاد ينضبط في هذا الباب، يعود إلى أصلين : مسألة تكلم الله بالقرآن وسائر كلامه، ومسألة تكلم العباد بكلام الله.
وسبب ذلك أن التكلم والتكليم له مراتب ودرجات، وكذلك تبليغ المبلغ لكلام غيره له وجوه وصفات، ومن الناس من يدرك من هذه الدرجات والصفات بعضها، وربما لم يدرك إلا أدناها، ثم يكذب بأعلاها، فيصيرون مؤمنين ببعض الرسالة، كافرين ببعضها، ويصير كل من الطائفتين مصدقة بما أدركته، مكذبة بما مع الآخرين من الحق.
وقد بين الله في كتابه وسنة رسوله ذلك، فقال : تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ [ الشورى : ٥١ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [ النساء : ١٦٣، ١٦٤ ]،
وقال :﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ [ البقرة : ٢٥٣ ].
ففي هذه الآية خص بالتكليم بعضهم، وقد صرح في الآية الأخرى بأنه كلم موسى تكليمًا، واستفاضت الآثار بتخصيص موسى بالتكليم، فهذا التكليم الذي خص به موسي على نوح وعيسى ونحوهما، ليس هو / التكليم العام الذي قال فيه :﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ [ الشورى : ٥١ ]، فإن هذه الآية قد جمع فيها جميع درجات التكليم، كما ذكر ذلك السلف.


الصفحة التالية
Icon